تكشف حادثة إطلاق الضابط بالجيش الإسرائيلي النار في حافلة القطارات المركزية في حيفا، لشكه بوجود شخص يحمل سكينا، حالة الهوس والرعب التي أصابت الإسرائيليين، جراء المواجهة الدائرة منذ مطلع هذا الشهر بين المواطنين الفلسطينيين في القدس والضفة الغربية، وجنود ومستوطني الاحتلال الإسرائيلي، بما يعكس بل ويكشف مدى الاستخفاف والتعجل بإطلاق النار بهدف القتل العمد، الذي يطلقه جنود وحتى مستوطنو الاحتلال الإسرائيلي، وأردى بالتالي عشرات الشبان والفتيات الفلسطينيين قتلى أو شهداء، لمجرد الشك، ودون أن يكون بالمقابل الشاب أو الفتاة الفلسطينية قد تسبب بمقتل أي من الإسرائيليين.
لا يقر الإسرائيليون أولا وقبل كل شيء بأن وجودهم العسكري والاستيطاني، وجود غير شرعي، وانه وجود قاهر وقامع للفلسطينيين، كذلك لا يدركون بان كل إجراءاتهم الرسمية، وهي إجراءات عسكرية، هي إجراءات احتلالية قاسية، وقد طال أمد "الحكم العسكري" لنحو مليونين ونصف المليون من البشر الفلسطينيين، الذين لم يعرفوا لا طعما ولا شكلا للحياة المدنية الآمنة، منذ نحو نصف قرن، ثم هم من اجل الاستمرار في حالة غير طبيعية، يمارسون كل أشكال الضغط، وحين ترتكب جرائم الحرق والقتل العمد بحق الأطفال والعائلات، من قبل أفراد وجماعات مصابة بهوس الإرهاب والتطرف، تغض سلطات الاحتلال النظر والبصر، بما يهدد ليس فقط الجانب الفلسطيني، بل المجتمع الإسرائيلي نفسه، لأن هؤلاء المتطرفين / الإرهابيين اليهود الإسرائيليين، سيدخلون المجتمع الإسرائيلي كمجموعات وجماعات عضوة فيه، عاجلا أو آجلا، بما يعده بمستقبل لا يختلف _ بتقديرنا _ عما يحدث في شمال سورية والعراق على يد داعش والقاعدة.
مفهوم إذن أن يعبّر الغضب الفلسطيني المعتمل بالنفوس منذ عقود عن نفسه، بخروج الشبان إلى الشوارع والتظاهر، وتشرّع الأمم المتحدة وكل قوانين وشرائع الدنيا مقاومة أي محتل بكل الأشكال والأساليب الممكنة، خاصة وان الطرف الآخر مسلح بالسلاح الناري، بالبنادق والرشاشات، إن كان على صعيد الجنود أو المستوطنين .
حادثة وحيدة، قوبلت بالشجب الأميركي، لدرجة أن المتحدث باسم الخارجية الأميركية وصف عملية طعن يهودي متطرف لأربعة فلسطينيين في ديمونا بأنه عمل ارهابي، ولم يكن ذلك في الحقيقة ليحدث إلا بعد أن شجب العملية رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بعد أن كان احد وزرائه وصف الواقعة بأنها عمل إرهابي .
أي أن واشنطن المنحازة دائما إلى جانب الاحتلال والقمع والقهر الإسرائيلي، لم تتخذ هذا الموقف إلا بعد أن اتخذته إسرائيل نفسها، وبهدف إدانة "الطعن" على الجانبين ومحاولة القول بأنه عمل "إرهابي" لتساوي بذلك الجلاد بالضحية، وربما أيضا لتفتح لها "ثغرة" للدخول من أجل تهدئة الأوضاع وإعادة الجانبين: الفلسطيني والإسرائيلي إلى مفاوضات عقيمة برعايتها!
بالعودة إلى جوهر الموضوع، نقول إن "مرور" عملية حرق وقتل الطفل الفلسطيني محمد أبو خضير قبل أكثر من عام، دون ملاحقة ومعاقبة القتلة، ودون محاسبة المستويين السياسي والعسكري / الشرطي الإسرائيلي، كذلك مرور جريمة حرق ومن ثم قتل أفراد عائلة دوابشة، دون أن يتم رفع ملف الجريمة إلى محكمة الجنايات الدولية قد شجع القتلة الإسرائيليين الذين يملؤون شوارع وحواري القرى والمدن والمستوطنات الإسرائيلية، ويشملون قادة الجيش ورئيس الحكومة ووزراءها، وأكثر من نصف الشعب الإسرائيلي بأحزابه اليمينية والدينية المتطرفة، كذلك جل أفراد المستوطنين، الذين إما أنهم يمارسون القتل بحق المواطنين الفلسطينيين بشكل شخصي أو يخططون ويحرضون عليه، أو أنهم يكافئون القتلة أو يغضون النظر عنهم، بما يحيل دولة إسرائيل بأسرها إلى أن تكون كمثل دولة "داعش".
على قدر ما تبدو محاولة السلطة الفلسطينية والقيادة الفلسطينية، كمحاولة جدية ومهمة ومسؤولة، نقصد بذلك مطالبة الأمم المتحدة بتوفير الحماية للشعب الفلسطيني الأعزل الذي يواجه جيشاً مجرماً من المستوطنين القتلة الحاقدين والمتطرفين، وجيشا احتلاليا، يمارس علميات الإعدام الميداني بكل خفة وصفاقة وسهولة، معززا بتسهيلات هي عبارة عن قرارات حكومية متتابعة تبيح للجنود إطلاق النار على كل حالة اشتباه أو تهديد، إلا أنها لا تكفي، فحيث أن الشارع قد انطلق، ولم يبق لتردد السلطة من حجة، بالتقدم لمحكمة الجنايات الدولية بملفات جرائم الحرب التي ارتكبتها وترتكبها إسرائيل، وعدم الاكتفاء بسياسة التهديد أو التلويح فقط بممارسة الحق الذي صار ممكنا منذ نحو ثلاث سنوات بعد ظفر فلسطين بالعضوية المراقبة في الأمم المتحدة.
إضافة لملف أبو خضير وعائلة دوابشة، هناك ملف فادي علون وهديل الهشلمون، ونحو عشرين طفلا وفتى دون العشرين تم إعدامهم منذ مطلع هذا الشهر، في زمن بات فيه التنصل من ارتكاب جرائم القتل أمرا صعبا بعد " ثورة " التواصل والاتصال، بكل تلك الجرائم موثقة بالصوت والصورة، عبر "يوتيوبات" متداولة ومنتشرة، في كل مكان، وليس هناك أسهل من جمعها وإعدادها، وهناك العديد من منظمات حقوق الإنسان ومن المحامين المستعدين للتجند في فتح هذه الجبهة الكفاحية لمواجهة القتلة، عبر المحاكم الدولية، لكسب معركة القضاء أو على الأقل لجعل القضاء رافعة إسناد لمقاومة شعبية / سلمية، حيث سيكون من شأن ذلك إقناع الشباب المنتفض بعدم فقدان الصبر، والتحول لممارسة العنف والانتقال للمقاومة أو المواجهة المسلحة، وبجدوى سلمية وشعبية المقاومة.