إيران، «صفقة القرن»، والفلسطينيون.. إذا فاز بايدن

حجم الخط

بقلم: ناحوم برنياع



في الأشهر الأخيرة أكثرتُ من عرض البحث على أصدقائي الأميركيين حول مستقبلهم في إسرائيل. ليس بصفة مهاجرين جدد بل بصفة طالبي لجوء. سودانيون بديلون. هم يروون عن مخاوفهم: عن الوباء الذي يحبسهم في البيت، عن الاقتصاد المترنح، عن الرعب الذي سيطر على مراكز المدن، وعن التظاهرات التي تدحرجت الى سلب ونهب للمحلات وقتل للمتظاهرين. يروون كم كان صعبا عليهم مواصلة تحمل رئيسهم. ويصفونه كشخصية شريرة في مسلسل فكاهي: لكس لوثر.
عندما أقترح عليهم الهجرة، يوجهون نظرة الى بيوتهم الجميلة، والى حياتهم المريحة، ويتذكرون بأن البديل الذي أعرضه عليهم أيضا بعيد عن ان يكون كامل الاوصاف، فينتقلون الى موضوع آخر. في البداية كانوا يصرخون عندما أعرض عليهم التفكير في الهجرة؛ وفي الأسابيع الأخيرة كفوا عن الصراخ.
منذ اغلاق صناديق الاقتراع في أميركا وأنا ملتصق ببث الـ»سي.ان.ان». يوجد عنصر ادمان في مشاهدة البث التلفزيوني. تغمض العيون ولكن المذيع يخبرنا بأنه بعد الدعاية ستأتي نتائج جديدة من ميشيغان او من اريزونا، عودوا الينا، فيقول المشاهد لنفسه حسنا جولة اخرى وبعدها أنام. ولكن عندها يأتي التحليل المنمق عن النتائج المتوقعة في الدائرة الانتخابية ذاتها، ناحية صعبة على اللفظ لاطلنطا، جورجيا، فينكس، اريزونا، ويعود المشاهد ليغرق في الاعداد المتراكضة على الشاشة. ولكنه لا يجد حلا، إذ لا يوجد حسم. كلما كانت الانتخابات متلاصقة اكثر، يكون عد الاصوات أبطأ. وكلما كان عد الاصوات ابطأ تكون الجلبة اكبر. ومثل إسرائيليين كثيرين، فإن لديّ علاقات طويلة مع أميركا. ففي السبعينيات كانت ووترغيت مدرسة للسياسة. القوة، المال والشرف: واشنطن هي الساحة التي تلعب فيها هذه العناصر الثلاثة.
تعلمتُ عظمة أميركا، كيف أنقذت البشرية وقيمها في الحربين العالميتين؛ كيف فتحت ابوابها امام ملايين المهاجرين. فقد بنتهم وبنوها؛ كيف نجحت في صياغة دستور عبقري واعادة بناء نفسها والازدهار بعد حرب اهلية مضرجة بالدماء. كيف تقدمت بالعلم والثقافة، الديمقراطية والاقتصاد العالمي. حرية، ديمقراطية، قوة عسكرية، حقوق انسان، نية طيبة، ثراء للفرد: كان القرن العشرون القرن الأميركي.
تعلمت ايضا كم هي رقيقة طبقة الطلاء الجميلة التي تغلف المجتمع الأميركي. تحتها يدور ظلم، جور، عنصرية، فساد سياسي، وعنف. الاغنياء اصبحوا اكثر غنى؛ الطبقة الوسطى، العمود الفقري للمجتمع، تتناقص؛ الفقراء يلقى بهم الى الخارج. وقد تطرفت هذه العملية منذ الثمانينيات. وتدهور ترامب بها أكثر فأكثر. أميركا لا تزال بلاد الامكانيات غير المحدودة، شريطة أن تكون مليارديراً.
ما كنت أريد أن أكون أميركيا في 2020.
مساهمة غير متواضعة
بايدن وترامب، رجلان أبيضان في السبعينيات من العمر، ينتميان لأميركا القديمة. 74 مليون طفل يعيشون في الولايات المتحدة. خلال 2020 أصبح الاطفال البيض أقلية (اليهود بالمناسبة هم جزء من الوسط الابيض. ليس دوما كان هذا هو الحال). في غضون عشرين سنة سيكون البيض اقلية بين عموم السكان.
ولكن عند اللون ينتهي وجه الشبه بينهما. بايدن سياسي مختص، مع قرابة 50 سنة أقدمية. جاء من دلاور، ولاية صغيرة، تعد أقل من مليون نسمة، على خط الحدود التقليدي، خط مايسون – ديكسون. بين شمال الولايات المتحدة وجنوبها. عمليا هي ضاحية من بنسلفانيا المجاورة. مدينة كبيرة واحدة، فيلمغتون، مصانع دوبونت ومحطة قطار بين واشنطن وفيلادلفيا – هذا يلخص الى هذا الحد او ذاك ما يوجد لدى دلاور لتعرضه.
يضيء الدستور الأميركي وجه الولايات الصغيرة. فحسب الدستور، تنتخب دلاور مندوبين لمجلس الشيوخ – تماما مثل كاليفورنيا التي عدد سكانها اكبر بأربعين ضعفا. وضرب حظ بايدن، وفي سن الثلاثين تنافس على عضوية المجلس وفاز. ومنذئذ وهو جزء من المؤسسة الواشنطنية. كان ضمن امور اخرى رئيس لجنة الخارجية في مجلس الشيوخ، وعرض ترشيحه للرئاسة مرتين وفشل. تولى لثماني سنوات منصب نائب رئيس موال لباراك اوباما وانتخب بالقوة، بخلاف ما كان متوقعا كمرشح للرئاسة في عمر 78. هو «العم جو»، العم الثرثار الذي يملأ بوده اللجوج الغرفة. لا توجد كاريزما، يوجد قليل جدا من المفاجآت.
الانتخابات على ترامب، وليس على بايدن. كل محاولات ترامب لتسويد وجه بايدن لم تنجح. فالإعلام الرسمي لم يشترِ القصص التي نشرها ترامب ورجاله، سواء لأنها تعلمت الدرس من الاخطاء التي ارتكبتها قبل أربع سنوات، أو لأن بايدن لم يثر فيها الاهتمام الذي اثارته هيلاري كلينتون. وكان تقليل الاهتمام ببايدن ونائبته، كاميلا هاريس، خطوة مدروسة من الديمقراطيين. كان هذا قرارا سليما.
ولكن كلما انكشفت الأعداد في السباق المتلاصق في الولايات المتنافسة يتبين انه كانت لبايدن مساهمة مهمة. فالاتحادات المهنية أيدته. بما في ذلك الافرو - أميركيون الذين يسكنون في المدن الكبرى في الدوائر الحرجة. وقد عرف كيف يصل الى رؤساء الجاليات، والوعاظ في الكنس. وأضفى عليهم شيئا من السحر الذي أضفاه عليهم الرئيس الذي ارتبط به – باراك اوباما.

سوء حظ ترامب
جاء ترامب الى الرئاسة من منهاتن، نيويورك. الولاية التي ولد فيها وأصبح مليارديراً. ولكنها لم تنتخبه قبل أربع سنوات ولم تنتخبه هذه المرة. وقد انتخب في الانتخابات التمهيدية في الحزب كشخص من الخارج – رجل الاعمال الناجح، الملياردير، النجم التلفزيوني، عدو المؤسسة السياسية، الرجل الذي رمم الاقتصاد، والذي سيزج هيلاري كلينتون في السجن ويجفف مستنقع واشنطن. بل سيعيد أميركا لعظمتها.
في سنوات ولايته الاربع تبين ان رجل الاعمال لم يكن ناجحا جدا: نجاحه التجاري الوحيد جعل اسمه علامة تجارية ذات قيمة. وكذا عن المليارات وشرعيتها كانت ثمة علامات استفهام. المستنقع الواشنطني لم يجفف، بل بدل الضفادع فقط: المليارديريون مؤيدو ترامب اثروا بفضل تبرعاتهم لحملة الانتخابات والعلاقات مع دوائر الضغط التي اشتروا خدماتها. ومجموعة المصوتين الذين حصلوا على مقابل كامل لقاء استثمارهم في ترامب هم المسيحيون الافنجيليون. فقد حصلوا على ثلاثة من اصل تسعة قضاة محافظين جدد، اغلبية مستقرة، لسنوات طويلة لقرارات حاسمة في القيم الاهم للمجتمع الأميركي. وهذا الارث سيبقى لسنوات بعد أن ينسى اسم ترامب.
الشعبوية القومية المتطرفة، الانعزالية، كراهية الاجانب، الاحتقار للسلامة السياسة، والمحبة للسلاح هي جزء من التاريخ الأميركي. وفي العقد الماضي، سافرنا مع صديقين أميركيين، امرأة ورجل، يعملان في مهن حرة، بالطرق الجانبية لنيو اينغلاند. وكان الموسم خريفيا مثل اليوم. تحدثنا عن سلسلة العمليات التي تعرضت لها أميركا: مجانين ذبحوا اطفال مدارس، مصلين، مجرد مشاة في الشارع. فالسهولة التي يمكن فيها الحصول على السلاح في الولايات المتحدة اثارت حفيظتنا، نحن الإسرائيليين، وافترضنا ان هكذا يشعر صديقانا ايضا. ولكننا اخطأنا.
قالا لنا، انتم لا تفهمون كم هو مهم السلاح لنا. لا تفهمون كم هذا أميركي. وفي الحديث تبين انهما يحتفظان بترسانة من الاسلحة وانهما يتدربان عليها. وقال لهما ترامب: «بايدن سيأخذ منكما البنادق»، فصدقوا.
من الدارج القول، ان مصوتي ترامب هم رجال بيض من الطبقة الوسطى الدنيا. «جديرون بالشفقة»، سمتهم هيلاري كلينتون في تصريح بائس لها عشية الانتخابات السابقة. ولكن ليسوا هم فقط صوتوا له، في حينه والآن. للترامبية يوجد مؤيدون في كل طبقات المجتمع: نساء أيضا، مؤمنون من كل الاديان ايضا. افرو - أميركيون ايضا. هسبانيون ايضا. يهود ايضا. الكثير من الناخبين ممن لا يحبون السلوك المهين، عديم اللجام، لترامب صوتوا مع ذلك له. فاليسار الديمقراطي يخيفهم اكثر.
«الناس عالقون في تاريخهم. التاريخ عالق فيهم»، كتب الشاعر الافرو - أميركي جيمز بولتوين. الترامبية جزء من لحم أميركا. والآن، أيضا جزء من لحم العالم الغربي كله.

نتنياهو سيتدبر أمره
توقع مؤيدو الديمقراطيين انتصاراً جارفاً: ليس بسبب بايدن بل بسبب ترامب. والتصويت المتلاصق أدخلهم في حالة اكتئاب. تعلموا أن الأميركيين ليسوا بالضبط ما اعتقدوا عنهم. نصف أميركا تحب ما يكرهون من كل قلبهم، وبالعكس. الشرخ عميق. ويبدو أيضا ان الحلم بالتحكم بالبيت الابيض وبمجلسي الكونغرس تبدد هو الآخر. أغلبية جمهورية في مجلس الشيوخ من شأنها أن تعرقل كل محاولة للتقدم بجدول اعمال جديد. وقبل ذلك تنتظرهم حرب استنزاف في المحاكم، ستمزق المجتمع الأميركي إرباً.
في الاسبوع الماضي، نشرت هنا مقابلة مع توماس فريدمان من «نيويورك تايمز». عدت إليها، الأربعاء الماضي. النتائج أقلقتني. قال لي، «تصور ان ترامب يقنع المحكمة العليا بمنحه النصر في الانتخابات. المتظاهرون يخرجون الى الشوارع في واشنطن كي يحرقوا المحكمة العليا». كما قال أيضا، «يتعين على ترامب أن يتصدى للإهانة، للنزول عن العناوين وعن الاحداث. وهو سيقاتل كحيوان محبوس. إن الخطر في أن تدخل الدولة في فوضى، وحرب شوارع، واضح وحقيقي. لا تقلل من قيمته».
ما يبرز للعيان، قلت، هو أنه يوجد هنا نوعان من الوطنية. بايدن يعرض وطنية قديمة، ثقة اساسية بالقانون، بمؤسسات الدولة، وبقواعد اللعب. اما ترامب ومؤيدوه فهم وطنيو رجل واحد. كل من تبقى مشبوه في نظرهم، تشتم منه رائحة المؤامرة.
فقال، «أتدري ما يواسيني. اذا فاز بايدن فسنتخلص من بضعة أناس أشرار: المدعي العام بار، وزير الخارجية بومبيو؛ وترامب نفسه بالطبع».
قلت له، انا اتابع بسرور احصاء الاصوات الذي لا ينتهي في لاس فيغاس. شيلدون ادلسون، الذي وعد بالتبرع لترامب بـ 180 مليون دولار، لم ينجح في ان يدفع عاملي دور الكازينو في المدينة للتصويت لترامب. كان رفع رواتب موظفي القمار سيكلف اقل، وينفع ترامب اكثر من كل الملايين.
سألت هل ترامب في ولاية ثانية جيد لنتنياهو؟
فضحك وقال، «نتنياهو يمكنه ان يكون راضيا. فقد استغل كل ما أعطاه إياه ترامب، ووفر على نفسه كل ما كان من شأن ترامب أن يفعله له في الولاية الثانية. ترامب قال ايضا في محادثات شخصية، وعلناً أيضا، انه يعتزم التوصل الى اتفاق مع ايران. فهل تعتقد بأن مثل هذا الاتفاق سيكون جيدا لإسرائيل؟».
سألت شخصا آخر يعرف بايدن جيدا كيف سيكون بايدن. فقال، «توجد لكم مشكلة مع بايدن بالنسبة لإيران. فهو لم ينسَ ما فعله نتنياهو بأوباما. وهو سيستأنف الاتصالات مع الإيرانيين في محاولة لترميم الاتفاق.
«اما الفلسطينيون فلن يكونوا على جدول أعماله. ليس بمبادرة منه. ولكن انتخاب بايدن سيعطي ذريعة جيدة لأبو مازن لاستئناف الاتصالات مع الأميركيين، والعودة لتلقي المال، وربما ايضا استئناف التنسيق الأمني مع إسرائيل. نتنياهو يمكنه ان ينسى صفقة القرن. فقد ماتت. تلقى إسنادا من ترامب لكل خطواته في الضفة. أما بايدن فلن يسمح له بالتمتع بذلك». فقد قلت ان صفقة القرن صفاها التطبيع مع الإمارات.
«غير صحيح»، قال. «الضم وحده فقط هو الذي صُفّي. فالشيخ اضطر لإلغاء الضم كغطاء لاستكمال عملية تطبيعه مع إسرائيل. والآن، دور السعودية. هي الأخرى تحتاج الى غطاء. وعندها أيضا لا توجد وجبات مجانية. الاذن لبناء فلسطيني في المنطقة «ج»، ربما. توجد إمكانيات اخرى. سيعود بايدن الى حل الدولتين. نتنياهو لا يمكنه أن يغير الواقع في منطقة القدس وفي غور الأدن». فقلت، ان بايدن لن يلغي الاعتراف بالقدس. فقال، «صحيح. لا يوجد ما يبرر ذلك».
ماذا سيحصل لصفقات سلاح الاماراتيين والسعوديين؟ سألت.
«من سيعينهم بايدن ستكون لديهم اسئلة. وهم سيفرضون قيودا. الاماراتيون لن يتمكنوا من عمل ما يريدون في اليمن مثلا».
قبل سنوات، التقيتُ بايدن في القدس. فاجأني بمعرفته الواسعة عن الشرق الاوسط وعن السياسة الإسرائيلية. تأييده لإسرائيل كان نموذجيا للديمقراطيين من الجيل الذي ولد اثناء الحرب العالمية والكارثة. الالتزام بالفكرة، وليس الالتزام بالسياسة؛ الالتزام بالأمن، وليس الاحتلال. موقف هذا الجيل من إسرائيل يختلف عن موقف الافنجيليين المبني على الايمان المسيحاني. «هم سيبيعونكم مقابل كرسي في المحكمة العليا»، قال لي بايدن في ذاك الحديث».
منذ ذلك الحين حصلت أمور. في سنوات اوباما الثماني كان بايدن نائبا للرئيس. في هذه السنوات انفتحت هوة بين موقف بايدن من إسرائيل والموقف من نتنياهو. ومنذئذ قام جيل جديد في الحزب الديمقراطي، يشخص إسرائيل مع الاستعمار، الاحتلال، والاخطر من ناحيته مع ترامب. لقد أحرق نتنياهو، أو على الاقل سحق، العلاقات مع القوة الصاعدة في الحزب الديمقراطي. أما مع بايدن فسيتدبر أمره.

عن «يديعوت»