لست أدري ما العبرة من الجدل الذي تركز عليه بعض وسائل الإعلام الوطنية وغير الوطنية، ويتمحور حول سؤال انتفاضة أم هبة شعبية، وهو جدل يقترن بقدر من الشعاراتية أحياناً وفي أحيان أخرى، بهدف وضع معايير للحكم على مواقف وسلوك القيادة السياسية وقيادات الفصائل.
المؤكد الذي ينبغي على الجميع الاعتراف به، هو أن هذه ليست أم المعارك، وإنما هي معركة تكتيكية، يحدد أهدافها ما ورد في خطاب الرئيس أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وبالتالي لا داعي للخوض فيما إذا كانت هذه الهبة دون سقف سياسي، ودون هدف أو انها معركة التحرر الوطني.
في هذه العجالة أود التأكيد على بعض وليس كل الحقائق المرتبطة بهذه الهبة، والتي تذهب إلى أبعاد استراتيجية.
أولاً، إن من ينهض بهذه الهبة الشعبية المحدودة ولكن المهمة جداً، هو جيل الشباب في الأغلب دون الثلاثين عاماً. وهم الجيل الذي ولد مع بدايات أوسلو، أو بعد ذلك، أو قبل ذلك بسنوات قليلة.
بالعودة إلى الوراء، بضعة عقود، سنلاحظ أن أبناء جيل العشرينيات، هم الذين فجروا الكفاح الوطني والثورة المعاصرة، من الزعيم الراحل أبو عمار ورفاقه إلى جورج حبش ورفاقه وإلى كل الفصائل الوطنية الأخرى.
الانتفاضة الشعبية الكبرى العام 1987، هي، أيضاً، كانت من صناعة وقيادة، الشباب، وهم كانوا وقودها، والذي أعطاها زخم الشمول والاستمرار لسنوات.
الشباب اليوم هم قادة الميدان، وحتى لو لم يكونوا الممسكين بالقيادة، إلاّ أن فعلهم الواعي والشجاع، يخلق من الحقائق ما يفرض على كل القيادات السياسية، أن تستند إليه وأن لا تتجاهل آثاره وأبعاده، ومن بين هذه الأبعاد أن الشباب يفرضون بقوة إرادتهم وفعلهم الوطني، الحاجة للتغيير بما يؤهلهم لاحقاً لأن يعمقوا دورهم السياسي، ومشاركتهم في صنع القرار.
إلى الجحيم ذهبت مقولة ومراهنة بن غوريون الذي قال ذات يوم إن الكبار يموتون والصغار ينسون، إذ ان التجربة تؤكد أن الصغار أشد تمسكاً بحقوق شعبهم الوطنية، وأكثر استعداداً للنضال والتضحية من أجلها.
ما ينبغي على الاسرائيليين أن يدركوه هو أن طبيعة المخططات الاحتلالية والتوسعية الإسرائيلية وعمق هذه المخططات، الارهابية العنصرية، من شأنها على تطرفها أن تخلق نقيضها، الذي سيظهر القدر ذاته من التطرف في مواجهة تطرف دولة الاحتلال.
هذا يعني أن ما يقدمه الشباب في الميدان خلال الهبة الشعبية الجارية ليس سوى رسائل رمزية لما يمكن أن يقوم به هؤلاء الشباب الذين يختزنون طاقة عالية، ويرتكزون على جيش احتياطي من الشباب الذين لم يدخلوا المعركة بعد.
أما الحقيقة الثانية، فهي تتصل بالجدل حول المشروع الوطني، الذي يقوم على هدف العودة وتقرير المصير، حيث يصر البعض على أن مجريات الأحداث والصراع، لا تبقي مجالاً لتحقيق هذا المشروع، ما يعني أن الأمور ذاهبة باتجاه دولة لشعبين، ومن حيث الأصل فإن ثمة خلافا كبيرا بين فصائل تتبنى وتحمل هذا المشروع وتناضل من أجل تحقيقه وأخرى ذات وزن هي الأخرى، لا تزال تلتزم ببرنامج وهدف تحرير كل أرض فلسطين التاريخية.
في هذا الصدد، أرى أن مثل هذا الخلاف لا حدود له، ولا نتيجة منه، فمن يقرر الاتجاه المستقبلي هو إسرائيل، بما أنها التي تملك زمام القوة، في الواقع فإن إسرائيل تواظب على سياسة تقويض المشروع الوطني الفلسطيني، وتواصل مشروعها التوسعي الذي يشمل كل الأرض الفلسطينية ما عدا قطاع غزة، وبالتالي فإنها أي إسرائيل تفرض على الفلسطينيين خوض الصراع المفتوح على كل الأراضي المشمولة والمقصودة بمشروعها التوسعي الذي يقوم على ادعاءات توراتية زائفة.
المشروع التوسعي الإسرائيلي عملياً، يفرض على الفلسطينيين في كل الأراضي المشمولة بالمخطط، أن يجدوا أنفسهم موحّدين في الأهداف، والأدوات وأشكال خوض النضال، خصوصاً وأنه سيكون من الصعب على دولة الاحتلال، أن تتخلص من نحو أربعة ملايين فلسطيني في الضفة والقدس والأراضي المحتلة منذ العام 1948.
وعلينا أن نلاحظ مدى التطابق في أشكال وأدوات وآليات المواجهة بين الفلسطينيين في مناطق العام 1948، وأولئك الذين يخوضونها في القدس، وأنحاء مختلفة من الضفة الغربية.
وعلى ذلك، فإن على إسرائيل أن تتحسّب بقوة إزاء الانتقال إلى مربع الصراع والاشتباك المفتوح، الذي يجعل المعركة تشمل كل مساحات المجتمع الإسرائيلي، والتجمعات الاستيطانية، فطالما تعمل إسرائيل بكل طاقتها الظالمة، فإنها تدفع الفلسطينيين دفعاً نحو العمل بكل طاقة الشعب في كل أرض فلسطين التاريخية.