بقلم: رجب أبو سرية

الديمقراطية الأميركية: للكبار فقط !

بقلم: رجب أبو سرية
حجم الخط

رام الله - وكالة خبر

في الانتخابات الرئاسية الأميركية التي جرت العام 2000 بين المرشحين الجمهوري جورج بوش الابن، والديمقراطي آل غور نائب الرئيس بيل كلينتون، أعادت لجنة الانتخابات الفرز أو عد الأصوات في ولاية فلوريدا، وهي ثالث ولاية من حيث الأهمية، بعد كاليفورنيا ولها 55 صوتاً في المجمع الانتخابي وتكساس ولها 38 صوتاً، وتتساوى مع نيويورك في عدد أصوات مندوبي الولايات الخمسين في المجمع، حيث كان الفارق بين المرشحين لا يتجاوز كثيراً الخمسمائة صوت فقط، صحيح أن بوش جمع في نهاية الأمر أصوات 302 من المندوبين الخمسمائة وثمانية وثلاثين، أي تجاوز الرقم 270 بثلاثة أصوات دون فلوريدا، إلا أن في ذلك دلالة مفادها أنه يمكن حسم أصوات أكثر من مئة مليون إنسان فقط بفارق بضع مئات من الناخبين.

وفي الانتخابات السابقة التي جرت العام 2016، تفوقت المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون بالتصويت الشعبي على منافسها دونالد ترامب بفارق نحو ثلاثة ملايين مواطن من أصل نحو مئة وثلاثين مليونا أدلوا بأصواتهم، وبفارق صريح بلغ 2% زيادة عما حققه منافسها، إلا أن ترامب فاز بالرئاسة، لأنه جمع أصوات 306 من مندوبي الولايات مقابل 232 لكلينتون.

وهذه المفارقة حدثت في تاريخ انتخابات الرئاسة الأميركية ثلاث مرات قبل العام 2016.

السؤال الذي يفرض نفسه هنا، هو لماذا تتبع الولايات المتحدة الأميركية التي تنتهج نظاماً فدرالياً يجمع ولاياتها الخمسين، هذا النظام الانتخابي الذي لا شبيه له في العالم، نقصد لماذا لا يكون الانتخاب مباشراً، أي من يفُزْ بأغلبية أصوات المواطنين في عموم البلاد يفُزْ بمنصب الرئيس، هل لأنها تتبع نظاماً فدرالياً ؟ لكنّ هناك كثيراً من الدول خاصة في أوروبا التي تنتهج أنظمة حكم كونفدالية أو فدرالية، لكنها تسير وفق الانتخاب المباشر، هل لأن هذا النظام يعزز من الحكم اللامركزي، أي يمنح الولايات صلاحيات الحكم الداخلي؟
قد يكون هذا سبباً، وربما كان لاتساع رقعة البلاد وكثرة عدد سكانها نسبياً، يد في اختيار هذا النظام الانتخابي، حيث يحتاج المرشح لضمان حظوظه بالفوز قاعدة لوجستية عظيمة، مالية وبشرية لتغطية الدعاية الانتخابية ولتحقيق الرقابة الخاصة على مئات آلاف مراكز الاقتراع، وخير دليل على ذلك عدم تجاوز المرشحين المستقلين أو مرشحي الأحزاب الصغيرة مثل الليبرالي أو الخضر نسبة مكونة من رقم واحد.

وقد لوحظ أن تداول الحكم يقتصر على الحزبين الجمهوري والديمقراطي، فمنذ مئة وخمسين عاماً تداول خلالها الحزبان الرئاسة بعدد بلغ 19 للجمهوري مقابل 16 للديموقراطي، وبالتحديد منذ أن تولى الرئاسة من يعد أسوأ رئيس وهو أندرو جيفرسون الرئاسة بعد اغتيال الرئيس الأهم في تاريخ البلاد أبراهام لنكولن، وكان نائباً له، أي منذ العام 1869، لم يترأس أميركا رئيس من غير الحزبين، وهذا لا يقتصر على الانتخابات الرئاسية فقط، بل يشمل حكام الولايات وأعضاء الكونغرس بمجلسيه من الشيوخ والنواب، بما يعني أن نظام الحكم الفدرالي، كذلك أنظمة الحكم في الولايات موزعة بين الحزبين، إلا ما ندر.

هكذا فإن كل مواطن أميركي، يرغب في دخول عالم الإدارة السياسية للدولة، فإن عليه أن ينتسب مبكراً لأحد الحزبين، ومن ثم يتدرج في صفوف الحزب ويرتقي إلى أن يصل لأي منصب ذي شأن، وهذا يعني أن دولة المؤسسات الأميركية، إنما ترتكز على المؤسسة الحزبية، التي تعتبر بمثابة أكاديمية التأهيل لكل المناصب السياسية، والتي بدورها تستند للحزبين الجمهوري والديمقراطي.

أي أنه لا مكان لا للمستقلين ولا للصغار من الأحزاب السياسية، ولا فرصه لهم في الوصول لأي منصب، أي أن ممارسة العمل السياسي في الولايات المتحدة، إنما هي عمل احترافي بكل معنى الكلمة، فلا يمكن لأي كان أن يجد نفسه مسؤولاً عن موقع ما بين ليلة وضحاها.
أما النظام الفدرالي نفسه، فهو نظام رئاسي، حيث ليس هناك منصب رئيس الحكومة، الذي عادة ما يخضع لمساءلة البرلمان في الدول الديموقراطية التي تنتهج نظام الحكم البرلماني، بصرف النظر إن كان منصبا ملكياً أو رئاسياً شرفياً، كما في العديد من الدول، ورغم أن الدستور يفرض موافقة الكونغرس على عدد من القرارات أو الصلاحيات التي يتمتع بها الرئيس، إلا أن للرئيس صلاحيات واسعة، في مجال السياسة الخارجية أولا وفي السياسة الداخلية ثانياً.

يتمركز نظام الحكم الرئاسي الفدرالي الأميركي، إذا حول شخص الرئيس، الذي يتمتع بصلاحيات واسعة، لذا فقد تدخل النظام بتحديد مدة الولاية الرئاسية بأربع سنوات فقط، قابلة للتجديد مرة واحدة، لا يشترط بالطبع أن تكون تالية، رغم أن العادة جرت هكذا، حيث يكون الرئيس بعد ولايته الأولى قد حقق كاريزما وحضوراً إعلامياً، لا يحتاج معهما إلى الكثير من الدعاية الانتخابية في الولاية الثانية، لذا فإن معظم الرؤساء نجحوا في التجديد، باستثناء خمسة رؤساء فشلوا في ذلك قبل دونالد ترامب كان آخرهم الجمهوري جورج بوش الأب العام 1992، فيما كان قد سبقه الديمقراطي جيمي كارتر العام 1980.

يقطع النظام الانتخابي الأميركي الطريق على تكرار ظاهرة بقاء فرانكلين روزفلت مدة ستة عشر عاما كرئيس أمضاها ما بين عامي 1932 - 1948، وقد كان السبب في ذلك يعود للحرب العالمية الثانية، لكنه بالنتيجة يكرس «استبداد» الحزبين الكبيرين، إن صح التعبير، فمنذ أن عرفت الدنيا الولايات المتحدة، خاصة بعد الحرب العالمية الأولى، وتداول الحكم مقتصر على الحزبين المذكورين فقط.

هذا في الحقيقة منح استقراراً لأهم دولة في العالم حالياً، لكنه بالمقابل ربما يفرض نوعاً من عدم قابلية التجديد، لدرجة أن تظهر مخاطر كان الناس قد ظنوا أنها قبرت في أميركا، كخطر العنصرية، فيما بقاء أميركا مقبولة في موقع قائد العالم، يحتاج إلى نظام أكثر ديناميكية وقابلية للتجديد، ولعل الشكل الذي رافق الانتخابات الأخيرة، إن كان فيما يتعلق بالتصويت عبر البريد، الذي كان ضرورياً بسبب «كورونا»، أو التواصل الالكتروني وحتى التغريدات، دليل على أن صناعة الرؤساء والقادة والمسؤولين باتت بحاجة إلى تجديد النظام نفسه.