عملية «أولمبيا»: القصة الكاملة لمحاولة اغتيال عرفات وقيادة «م. ت. ف» العام 1982 (1-2)

حجم الخط

بقلم: رونين بيرغمان


في الأول من كانون الثاني 1982 كان يفترض أن يموت عرفات. ولم يكن الوحيد. عملياً، في ذاك اليوم في بيروت، إلى هذا الحد أو ذاك، كانت كل قيادة «م.ت.ف» ستصعد في مسيرة إلى السماء.
كان هذا في مهرجان واسع أعدته م.ت.ف في المدينة الرياضية الكبرى التي حملت لاحقاً اسم كميل شمعون.
كان عرفات يجلس هناك في منصة الشرف، وإلى جانبه معظم كبار رجالات المنظمة.
وكانت هناك أجواء من استعراض القوة: كان هناك آلاف من رجال م.ت.ف ومؤيديهم يصفقون بحماسة، حيث ينهض عرفات ويؤدي التحية بيمينه ويرفع شارة النصر بيساره.
وإلى جانبه كان نائبه في العمليات، أبو جهاد، بالبزة العسكرية يجلس في صمت وتجهم.
شيء واحد فقط لم يكن عرفات يعرفه في تلك اللحظة: أنه تحت مقاعده ومقاعد رجاله زرع رُسل إسرائيل كيلوغرامات عديدة من المواد المتفجرة.
وبجانب منصة المدينة الرياضية كان يفترض أن تقف ثلاث مركبات متفجرة أخرى.
وكانت الخطة أن تبدأ العبوات التي تحت المقاعد بالانفجار، وبعدها بدقيقة، وفي ظل الفزع الذي ينشأ وتدافع الناجين الفزعين إلى الخارج يتم تشغيل السيارات المفخخة بأجهزة التحكم من بعيد لتتفجر، في إحدى العمليات الكبرى الدامية.
وكان من المتوقع لشدة الانفجار والدمار أن تكون «ذات حجوم غير مسبوقة حتى بمقاييس لبنانية»، كما صاغ ذلك مسؤول كبير جداً في قيادة المنطقة الشمالية في ذاك الوقت. وكان الاسم السري للعملية «أولمبيا».

بيغن يلغي العملية
توجد روايتان لهذا الاسم: العميد أفرايم سنيه، الذي كان مشاركاً في التخطيط، قال لـ «7 أيام» إنه وضع الاسم؛ لأن الانفجار كان مخططاً ليكون في الملعب الأولمبي.
آخرون يقولون إن العملية ولدت عندما كان مخططوها يجلسون على طاولة جانبية في المطعم التل أبيبي الأسطوري «أولمبيا»، الذي كان في تلك السنوات برلمان قيادة الدولة.
مهما يكن من أمر فقد كانت في إسرائيل قلة فقط تعرف عن هذه الخطة، معظمهم أولئك الذين جلسوا حول الطاولة في مطعم «أولمبيا» وخططوا لها.
ومثل قسم غير قليل في أعمال إسرائيل في لبنان في أيام الشغب تلك، فإن عملية التفجير في الملعب لم تجتز كل مستويات المصادقات العادية، وخطط لها في الظلام من قبل عدد صغير في السر.
أما القلائل الذين عرفوا فانقسموا إلى قسمين: بعضهم أمل في أنه كنتيجة للانفجار ستتلقى «م.ت.ف» ضربة تجعل من الصعب عليها الانتعاش منها وهكذا تمنع حرباً كبرى؛ وأمل البعض الآخر بأن ترد «م.ت.ف» بوابل هائل من الكاتيوشا نحو بلدات الشمال، فتوفر للجيش الإسرائيلي الذريعة ليجتاح لبنان أخيراً.
وكان كل شيء جاهزاً ولم تكن حاجة إلا لإصدار الأمر، بالضغط على الزر كان كل تاريخ الشرق الأوسط سيتغير.
ولكن هذا لم يحصل. قبل بضع ساعات، دُعي مخططو العملية إلى رئيس الوزراء بيغن الذي قرر إلغاء كل شيء في خطوة دراماتيكية، بينما كان على سرير الشفاء في المستشفى.
والباقي معروف: بعد نصف سنة من ذلك، بدأت حرب لبنان الأولى التي لم تنته إلا بعد 18 سنة وبثمن باهظ من الخسائر.
غير قليل من الأشخاص، الذين يتحدثون هنا، وبينهم رئيس «الموساد» الأسبق، مائير داغان، واللواء أفيغدور يانوش بن غال لم يعودوا على قيد الحياة.
روايتهم عن الأحداث العاصفة في تلك الفترة قدموها قبل وفاتهم. وعلى أي حال، كان معظم التفاصيل عن تلك الفترة العاصفة في لبنان، والتي لا يعرف عنها إلا قلة، محظورة النشر.
وهذا الأسبوع، لأول مرة، سمحت الرقابة العسكرية برواية القصة شبه الكاملة عن «أولمبيا» والكشف عن إحدى عمليات التصفية المتطرفة التي خطط لها في الجيش الإسرائيلي.
مسألة واحدة فقط بقيت مفتوحة: كيف ستكون حياتنا اليوم لو كانت كل قيادة «م.ت.ف» شطبت ببساطة تماماً في تلك الظهيرة الشتوية في الملعب في بيروت؟
رسالة رافول: «قتل الجميع»
زرعت بذور عملية «أولمبيا» من خلال مأساة وقعت قبل نحو ثلاث سنوات من ذلك.
ففي 22 نيسان 1979 تسللت خلية «مخربين» من «م.ت.ف» إلى نهاريا ودخلت بيت عائلة هيرن.
قصة «المخرب» سمير قنطار ابن الـ 16 عاما ونصف العام، الذي حطم رأس الرضيعة عينات على صخرة، بعد أن قتل أباها داني؛ وعن الأم سمدار التي كانت أسكتت ابنتها الثانية ياعيل، ولكن من شدة الصدمة والخوف خنقتها فماتت، عصفت بالدولة.
وصل اللواء يانوش بن غال قائد المنطقة الشمالية إلى الساحة بعد القبض على «المخربين».
رأى جثث الضحايا وسمدار التي تصرخ رعباً بعد أن فهمت بأنها فقدت كل أعزائها في الحياة، قال لي بن غال بعد عدة سنوات من ذلك: «لا يمكنك أن تتخيل حجوم هذه الفظاعة».
اشتد الغضب في إسرائيل. بعد الجنازة، أمر رئيس الأركان رفائيل إيتان (رافول) بن غال ببساطة «قتل الجميع». وكانت الرسالة واضحة: كل رجال «م.ت.ف» في لبنان، دمهم في رقابهم.
من أجل هذه المهمة، عرف بن غال بالضبط من يحتاج: مئير داغان، «خبير العمليات السرية» كما وصفه، والذي انتصر على «الإرهاب» الفلسطيني في غزة في بداية ذاك العقد.
حصل داغان على رتبة عقيد، وقاد وحدة جديدة تدعى «ادل» (منطقة جنوب لبنان) تشرف على منظومة استخبارات وعمليات سرية.
بعد التعيين اجتاز بن غال وداغان الحدود، وصعدا إلى إحدى قمم الجبال في جنوب لبنان. ومن هناك، وهما يشرفان على الجنوب، نحو إسرائيل، قال بن غال لداغان: «من الآن فصاعداً أنت القيصر هنا. إفعل ما تشاء».
سأل بن غال ما الهدف. فأجاب: «خلق ردع. الإيضاح لهم أننا لسنا دفاعيين فقط بل هجوميون. وأننا نبادر إلى القتال».
*وهل كنت تعرف كل ما كان داغان سيفعله هناك؟
-»أعطيت لعمليات السرية الحرية الكاملة»، روى بن غال بصراحة، قبل وقت قصير من وفاته. «عرفت بعضها ولكني تجاهلت، وعن بعضها الآخر عرفت بأثر رجعي فقط. وعن قسم آخر لم نتحدث حتى اليوم».
*لماذا؟
- «لأنه ينبغي أحياناً أن تعرف كيف تغض النظر».
أقام داغان قيادته السرية داخل مرج عيون، بلدة في جنوب لبنان كانت في حينه تحت سيطرة جيش لبنان الجنوبي.
وكان دافيد أغمون رئيس قيادة المنطقة الشمالية، وأحد القلائل الذين عرفوا عن العمليات السرية لداغان.
وقال إن «الهدف كان إحداث الفوضى بين الفلسطينيين والسوريين في لبنان. إعطاؤهم الإحساس بأنهم يتعرضون كل الوقت للهجوم وإدخال إحساس بانعدام الأمان لديهم».

عمليات بالغمز !
وروى بن غال أن «رافول وأنا كنا نقر العمليات بالغمز. كنت أقول له يا رافول يجب القيام بعملية. فيقول نعم ولكنه لا يُصدر شيئاً خطياً في ذلك. هذا بيني وبينك. لا أريد أن يُعرف هذا. لم نعمل وفقا للبيروقراطية العسكرية. فهذه العمليات عملناها ولم نعملها».
وكانت القوة التي استخدمها داغان بحاجة بالطبع للسلاح وللمتفجرات بالأساس.
وكان بن غال في ذلك الوقت يسكن في كيبوتس في الشمال يعمل في إنتاج المعلبات.
«قال يانوش إنه يريد استخدام بعض الماكينات في الليل»، يروي أحد سكرتيريي الكيبوتس في تلك الفترة.
«مسألة أمن دولة. وبالطبع أعطيناه المفاتيح وكل الإسناد. فهو قائد المنطقة. هو الملك بالنسبة لنا. ما لم يعرفوه في الكيبوتس هو أنه في تلك الليالي، زرعت في تلك المعلبات مواد متفجرة. يقول بن غال: «كنا نصل إلى هناك في الليل، مئير وأنا وباقي الجماعة وكنا نعبئ المعلبات الصغيرة هذه ونربط المتفجرات».
دخلت هذه المعلبات المفخخة بسرعة شديدة إلى الاستخدام. «قسم كبير من الأهداف»، يقول أفرايم سنيه، الذي كان في حينه ضابطاً كبيراً في قيادة المنطقة الشمالية «كان هناك معاونون للفلسطينيين فجرت منازلهم».
*لماذا في واقع الأمر؟
- «كي يعرف الجميع أن من يعمل مع «م.ت.ف» يتلقى الضربات».

«أمان» خارج الصورة
في كل هذه العمليات، أبقيت شعبة الاستخبارات «أمان» خارج الصورة. ولكن في غضون وقت قصير اشتم رئيس شعبة الاستخبارات في حينه، اللواء يهوشع سجي، بأن شيئاً ما يحصل في لبنان، وسعى ليفحص الأمر.
ويسترجع سغي الذاكرة فيقول: «لكن بن غال حاول منعي من الدخول إلى قيادة المنطقة الشمالية أو زيارة المنطقة».
«كان ثمة صراع دائم مع قيادة المنطقة»، يقول عاموس جلبوع، الذي كان في حينه عميداً وأحد كبار رجالات شعبة الاستخبارات. «فقد تجاوزونا، وعملوا من خلف ظهرنا. وكان يانوش يكذب علينا كل الوقت. لم نصدق أي تقرير لهم. وكانت الخطورة في كل الموضوع هي في أن كل شيء نفذ بإذن رئيس الأركان الذي كان يبقي في السر هذا النشاط ويخفيه عن هيئة الأركان. لقد كانت هذه إحدى الفترات الأكثر فوضى والأكثر بشاعة في تاريخ الدولة».
لم يتنازل سغي. فقد استخدم «عيت»، وحدة أمن الميدان في شعبة الاستخبارات، كي يتابع ما يحصل في جنوب لبنان في مشروع داغان.
«ولكن ضابط الاتصال في قيادتي أمسك بهم يرتبطون بمركزية الاتصال عندي وألقيت بهم في السجن»، روى بن غال وضحك، كي لا تنجح شعبة الاستخبارات في أن يعرفوا ما يفعله داغان، وأقيم خط هاتف منفصل وآمن بين مكتب بن غال وبين قيادة داغان في لبنان.
يتذكر أفرايم سنيه بأن داغان أشار إلى جهاز الهاتف وشرح له بابتسامة: «هذا كي لا يتمكن يهوشع سغي من التنصت ويكون بوسع شعبة الاستخبارات أن يقفزوا لي. ولكن شعبة الاستخبارات ليسوا إمّعات. ذات يوم اكتشف بن غال بأن سغي توجه إلى بيغن وعلى لسانه شكوى عن عمل إشكالي نفذته القوة في لبنان. واستنتج بن غال من ذلك بأن شعبة الاستخبارات اقتحمت أيضا الهاتف الخاص بينه وبين داغان، ومن الآن فصاعداً سيتم تخطيط العمليات فقط في لقاءات وجهاً لوجه. مرة في الأسبوع كان رافول يذهب من بيته في تل عدسيم إلى القيادة في الناصرة وهناك يتفق مع بن غال في شؤون حرب الظلال في لبنان.
هل انتهى هنا كل شيء؟ تماماً لا. بدأ الجنون فقط: شعبة الاستخبارات، التي حققت مع «مخربين» فلسطينيين وقعوا في الأسر، انتزعت منهم أيضاً معلومات عن عمليات داغان في جنوب لبنان.
وعندما فهمت بأن رافوال، بن غال، وداغان هم في الجبهة ذاتها قررت الشعبة الصعود إلى المستوى السياسي، وتوجهت إلى نائب وزير الدفاع، مردخاي تسيبوري.
روى سغي لتسيبوري أنه تجري في جنوب لبنان عمليات عصابات منفلتة دون أذون.
وواصلت الحرب بين شعبة الاستخبارات وداغان بالاشتعال. وعندها جاءت الذروة: أحد التقارير التي تلقاها تسيبوري كان عن عملية ضد رجال «فتح» قتل أثناءها نساء وأطفال أيضاً.
* يا يانوش، على هذه العملية تلقيت إذناً؟
- بن غال: «لم يرفع رافول هذا إلى الأعلى (لوزير الدفاع)، لأننا خفنا أننا لن نحصل على الإذن لمثل هذا الأمر».
* وماذا حصل هناك؟
-»اشتعلت بضع سيارات وتفجرت. أن أقول لك إنه كان هناك نجوم كبيرة؟! لم تكن. ولكنه قتل بضع نشطاء لـ(م.ت.ف)».
«اعتقدت أن هذا أمر رهيب»، قال تسيبوري. وطلب من بيغن أن يطرد بن غال من الجيش الإسرائيلي.
«يا مناحم، نحن دولة سيادية»، قال لرئيس الوزراء. «كل شيء يفعله الجيش يمكنه أن يفعله فقط بإذن الحكومة. ولكن هذا لم يرفع، ولم يأذن أحد بهذا».
استدعي بن غال على عجل إلى مكتب وزير الدفاع في الكريا في تل أبيب. بيغن، تسيبوري، رافول وسغي انتظروه هناك. «أنت تقوم بعمليات في لبنان دون إذن. وفي هذه العمليات يقتل نساء وأطفال»، قال له تسيبوري.
أجاب بن غال: «غير صحيح. قتل هناك 4 أو 5 مخربين. من يسافر في لبنان في الساعة الثانية ليلاً في مرسيدس؟ مخربون فقط».
احتج تسيبوري بشدة: يجب تنحية قائد المنطقة الشمالية، الذي ينفذ أموراً دون إذن هيئة الأركان. أنا نائب وزير الدفاع ولم أعرف شيئاً. أنت، يا سيد بيغن، وزير الدفاع ورئيس الوزراء ولم تعرف شيئاً».
روى بن غال أنه أشار إلى رافول كي ينهض ويقول إن كل شيء كان بعلمه وبإذنه، ولكن رئيس الأركان، الذي فهم أنه يمكن أن يتورط هو نفسه، «لعب بساعته فقط، أدارها من جهة إلى أخرى»، كما وصف بن غال.
استوعب بيغن بحواسه الحادة أن ما يجري لديه في هذه اللحظة في مكتبه حرب جنرالات قد تنتهي بلجنة تحقيق، فقرر إطفاء اللهيب. فتوجه لبن غال: «يا قائد المنطقة الشمالية، أريد أن أسألك كضابط، وأعطني كلمة شرف منك. هل تلقيت من أحد ما فوقك إذناً بالعملية؟»
«نعم سيدي رئيس الوزراء، تلقيت إذناً»، أجاب بن غال.
*بيغن: «أصدق قائد المنطقة الشمالية. لن يعطي ضابط في الجيش الإسرائيلي كلمة شرف ويكذب. الموضوع منتهٍ».
لم يكن الموضوع حقاً منتهياً، ولكن في شعبة الاستخبارات فهموا أن بيغن يفضل نهج «لا أعرف، لا أسمع، لا أرى»، فقرروا ترك حرب الظلال لداغان لحالها في هذه الأثناء، حالياً. ويقول العميد عاموس غلبوع إنه «كان لهم الكثير من الأعمال التي اعتبرت صغيرة، تكتيكية، وبالتالي قررنا ترك الأمر. قلنا لعله من الأفضل ألا نعرف. شيء بصيغة «فليلعب الأولاد قبلنا».
وافق بن غال على أن الشكل الذي تصرفت فيه قيادة داغان في مرج عيون يذكر بقدر أكبر «بالحركة السرية وليس بالجيش المنظم».
ولكنه يشدد على أنه «كان هذا مريحاً لي؛ لأن الأعمال كانت في منطقة الظلام وأحياناً لا حاجة لك لتعرف. فهذا خليط معقد من السياسة والجيش. توجد أمور لا حاجة لك لتكون فيها دودة مثل تسيبوري، يريد أن يعرف ويتقصى الحقيقة حتى نهايتها. دع الأمور تتدفق من تلقاء ذاتها، واعرف كيف تعطي الإسناد لداغان حتى لو فشلت الأمور. صحيح، كان داغان إنساناً متوحشاً. ولكن من الأفضل لك أن يكون لديك حصان فتي ومشاغب يقفز عن الحواجز، بل يحطم الساق أحياناً من أن يكون لديك بغل كي يقوم بخطوتين يتعين عليك أن تضربه بالسوط».

عن «يديعوت»