بين سلميّة الانتفاضة وعسكرتها

gg
حجم الخط

-خبر-كتب:هاني المصري

20 تشرين الأول 2015
   


لا يزال الجدال عاصفًا، وهو الأهم، حول سلمية الانتفاضة أو عسكرتها، وحول ظاهرة الطعن بالسكاكين التي هي حتى الآن أبرز ما يميز موجة الانتفاضة الحالية.
هل كانت ستصل هذه الموجة إلى ما وصلت إليه من انتشار وتصاعد لولا عملية «بيت فوريك»، واللجوء إلى السكين والدهس، وتنفيذ عمليات في القدس ومختلف المناطق في إسرائيل، فهل هذا الاستهداف يوحد إسرائيل كما يُزعم، ما يوجب التركيز على المقاومة في الأرض المحتلة العام 1967، أم أن إسرائيل موحدة ولن تنقسم إلا إذا بدأت بدفع ثمن استمرار الاحتلال والعدوان والاستيطان، والدليل على ذلك تزايد الأصوات في هذه الأيام التي تنادي بالانفصال عن العرب بمعدلات غير مسبوقة؟
لولا «انتفاضة السكاكين»، هل كانت «الانتفاضة» ستحظى بهذا القدر من المشاركة الشعبية والتأييد، وهل ستتمكن من إنجاز ما حققته من إعادة القضية الفلسطينية المهمشة إلى جدول الأعمال؟ وهل كان الاقتصاد الإسرائيلي سيتراجع في عدة مجالات حيوية جرّاء فقدان الأمن، لدرجة أن واحدة على الأقل من كبريات الصحف في إسرائيل صدرت بعناوين بارزة في صفحتها الأولى بأن «إسرائيل لم تعد مكانا آمنا للعيش»؟ وهذا  سيؤدي إذا استمر إلى بداية انقسام في إسرائيل وليس إلى توحدها وراء المطالبة باتخاذ أكثر الإجراءات وحشية ضد الفلسطينيين.
إن ما يفسر هذا الشكل من «الانتفاضة» مستوى وحجم القهر والإذلال المستمر في ظل فقدان أي أفق سياسي، وإمعان إسرائيل في تعميق الاحتلال، وتوسيع الاستيطان، والعدوان، والإرهاب الفردي والمنظم، واستكمال العمل على توحيد القدس وتهويدها وأسرلتها.
إذا قام الجميع، خصوصًا المثقفين، بأدوارهم لشرح: لماذا ينتفض الفلسطينيون منذ أكثر من مائة عام، بحيث يكون ما بين الانتفاضة والانتفاضة هبات، وأحيانًا ثورات؟ ولماذا تأخذ الانتفاضة الحالية شكلًا مختلفًا، ولماذا لم تحقق النضالات السابقة انتصارات بمستوى التضحيات، وليس الزعم بأنها لم تحقق شيئًا، أو أنها دمرتنا، أو سبب الهزيمة؟ فالذي أدى إلى الهزيمة حجم المؤامرة والاختلال في ميزان القوى أولًا، والأخطاء الجسيمة المرتكبة ثانيًا.
لولا الثورات والانتفاضات والتضحيات الغالية، ولولا المقاومة المسلحة لما بقيت القضية حية، ولتمكنت الحركة الصهيونية من استكمال تحقيق كل أهدافها بطرد من تبقى من شعب فلسطين، ومن إقامة الدولة اليهودية النقية على أرض «إسرائيل الكاملة».
لا يمكن بعد كل هذه التجارب والنضالات أن نعود دائمًا إلى نقطة البدء: نضال سلمي أم مسلح، مفاوضات أم مقاومة، بالرغم من أن هذه الانتقائية والأحادية أحد الأسباب في وصولنا إلى ما نحن فيه، فما يحدد أشكال النضال ليس الضحية وحدها، بل طبيعة وخصائص المشروع الاستعماري الاستيطاني الإجلائي، الذي لا يريد تسوية ولا يزال مفتوحًا ولم يغلق، إضافة إلى مدى لجوئه إلى الوحشية والعنصرية والإرهاب، فلكل فعل رد فعل مساوٍ له في المقدار ومعاكس له في الاتجاه.
لعل هذا ما يفسر: لماذا تتركز «الانتفاضة» في القدس، ولماذا مرشحة للانتقال إلى مناطق (ب) و(ج)، حيث تنتشر المستوطنات، وينتقل بينها المستوطنون الذي يعيثون في الأرض فسادًا وخرابًا ودمارًا.
إن أهم درس يمكن الخروج به من التجارب السابقة هو ضرورة الجمع ما بين عدة خيارات وتنوع أشكال النضال والجمع بينها حينًا، ووقف شكل واتباع غيره حينًا آخر، والاستعداد للانتقال من خيار إلى آخر، ومن شكل نضالي إلى آخر، لأن المقاومة بكل أشكالها السلمية والمسلحة تزرع والكفاح السياسي بكل أشكاله يحصد «ومن لا يزرع لا يحصد».
صحيح إن اختلاف الظروف والمعطيات وازدياد الاختلال في موازين القوى يدفع إلى ضرورة عدم اعتبار المقاومة المسلحة الأسلوب الرئيسي في النضال، كونه يحتاج إلى إمكانيات وأسلحة وأموال وإمدادات، وعوامل وظروف داخلية غير متوفرة مثل الوحدة على إستراتيجية واحدة، وإلى عمق عربي ودولي ملائم، ولكن استبعاد المقاومة المسلحة في ظل العدوان الإسرائيلي المستمر واستخدام القوة المفرط بوحشية متزايدة بمقاومة أو من دونها يطرح أهمية التمسك بحقنا في المقاومة، بما فيها المسلحة، واستخدامها وفقًا للقانون الدولي، واستنادًا إلى كل الشرائع الدينية والدنيوية.
خلال السنوات العشر الماضية التي عادت فيها القيادة الفلسطينية إلى تبني سياسة المفاوضات كأسلوب وحيد، ومارست التنسيق الأمني مع الاحتلال لمنع ومحاربة المقاومة وتفكيك بناها التحتية؛ لم توقف دولة الاحتلال قمعها واستيطانها، بل كثفت من اعتداءاتها وتزايد عدد المستوطنين بالضفة، لدرجة أنه بلغ عدد اعتداءات المستوطنين وحدهم خلال تلك الفترة 11 ألف، كما أعلن الرئيس، وخلال هذا العام بلغت الاعتداءت ألفًا، من قتل وحرق واعتداء على البشر والحجر والزرع، الأمر الذي جعل حياة الفلسطينيين جحيمًا لا يُطاق.
إن الموجة الانتفاضية الحالية شكل من أشكال الاستجابة الفلسطينية لضرورة التصدي لتطبيق المشروع الاستعماري الصهيوني في المرحلة الحالية، فهو يحاول انتهاز الفرصة في ظل الانقسام والعجز والحروب الداخلية العربية لتطبيق ما عجز عن تحقيقه حتى الآن، بدليل نزع صلاحيات السلطة ودفع خيار إقامة دولة فلسطينية إلى حافة الموت.
السؤال: ليس لماذا يقوم الشباب الذين ولدوا في فترة أوسلو بطعن المحتلين، بل لماذا تأخرت ردة الفعل الطبيعية كل هذا الوقت، كما كتب العديد من الكتاب الإسرائيليين، وبعضهم من الصهاينة؟ 
إن ظاهرة الطعن بالسكاكين ليست طارئة ولا حديثة، بل شهدها النضال الفلسطيني منذ البداية، وتجسدت في كل المراحل وجميع الهبات والانتفاضات، بما فيها الانتفاضة الشعبية (انتفاضة الحجارة). والجديد أنها اليوم باتت أكثر عددًا، إذ يمكن تسمية ما يجري حاليًا «انتفاضة السكاكين»، لأنها غدت السلاح الوحيد المتوفر لدى الفلسطينيين.
وقد استُدعي هذا الشكل من الانتفاضة بسبب الفراغ الناجم عن غياب القيادة التي أعلنت منذ سنوات بأن خيارها وصل إلى طريق مسدود ولم تجرؤ على اختيار طريق جديد، وأعلنت بأنها لا تريد انتفاضة، واكتفت بالتهديد حينًا، واستخدمت تكتيكات تستهدف إحياء المفاوضات والسعي لتحسين شروطها، وليس فتح طريق لمسار جديد، حينًا آخر.
كما أن القوى التي رفعت شعار المقاومة المسلحة وصلت إلى طريق مسدود، بدليل تنفيذها لهدنٍ عدة منذ العام 2003 وحتى الآن، وسعيها لهدنة طويلة الأمد مقابل الحفاظ على سلطتها ورفع الحصار عن غزة إلى أن «يقضي الله أمرًا كان مفعولًا»؛ لذلك فاجأت «الانتفاضة» الحاليّة الجميع.
صحيح أن» فتح» أرادت «هبّة» لاستعادة شعبيتها المتراجعة، ولدعم السياسات التي لوّح بها الرئيس في خطابه بالأمم المتحدة، خصوصًا تهديده بعدم الالتزام بالاتفاقات إذا استمرت إسرائيل بعدم الالتزام بها، إلا أنها فوجئت بالمسار الذي سارت فيه «الانتفاضة» منذ عملية «بيت فوريك» التي رحب بها الجميع تقريبًا، وبظاهرة السكاكين التي بدت لا بديل عنها في ظل غياب القيادة والإرادة والتحرك الشعبي الواسع لتقديم رد سريع يتناسب مع حجم العدوان والجرائم الإسرائيلية، ويكون قادرًا على الاستنهاض السريع للشعب. أما «حماس»، فقد أرادت تصعيد الانتفاضة في الضفة حتى تساعدهاعلى الخروج من مأزق سلطتها في غزة.
بدلا من لوم الأبطال الذين نقلوا الوضع بعملياتهم من حال إلى حال، يجب لوم القيادة والقوى التي لا تزال مرتبكة بالرغم من مضي عشرين يومًا على «الانتفاضة» دون أن ترتقي إلى مستوى الانتفاضة، بل سعوا إلى إبقائها رهينة للانقسام وللسياسة المجربة سابقًا بقطف ثمار النضالات والانتفاضات قبل نضجها، وما أدت إليه من «اتفاق أوسلو» و»خارطة الطريق» والانقسام، أو للتعامل مع النضال وكأنه نضال من أجل النضال، هدفه مجرد إبقاء جذوة المقاومة مشتعلة إلى حين نهوض المارد العربي أو المارد الإسلامي.
على القيادة والقوى استثمار النضال سياسيًا حتى يشعر الفلسطيني أنه يحقق إنجازات ويسير، ولو بشكل تراكمي، على طريق النصر المؤكد. وهذا يحتاج إلى هدف قابل للتحقيق، وإلى تعميق الطابع الشعبي للانتفاضة دون إهمال كلي للمقاومة المسلحة الضرورية لرفع معنويات الفلسطينيين، ولجعل الاحتلال مكلفًا لإسرائيل، لأنه إذا كانت الانتفاضة سلمية 100%، واكتفت بالمسيرات في الساحات ومراكز المدن، ورفع الشموع، وشكل من أشكال المقاطعة للمستوطنات، وترديد الهتافات مائة عام، وفي ظل عدم تواجد جيش الاحتلال في المدن؛ فلن تحرك إسرائيل ساكنًا، وسيبقى المجتمع الدولي جامدًا مطمئنًا لاستمرار مصالحه ونفوذه. 
المطلوب انتفاضة جديدة تأخذ شكل الموجات، تركز كل موجة على عنوان ولا تستمر طويلًا لسنوات، لأن هذا مرهق ويستنزف الطاقات الفلسطينية، ولأن الصراع طويل ويجب التعامل معه والاستعداد له على هذا الأساس، والحرص على الجمع ما بين أشكال النضال مع التركيز على النضال الشعبي والمقاطعة، وحينما تنزل الجموع إلى الشوارع تنتفي الحاجة إلى ظاهرة «انتفاضة السكاكين».
كنت من القلائل الذين جاهروا بانتقاد العمليات الاستشهادية التي نفذت في الانتفاضة الثانية، ليس لأنها «انتحارية»، بل لأنها - أساسًا - تدفع الصراع إلى معارك حاسمة وفاصلة في وقت نحن غير مستعدين فيه للحسم، ما مكن الاحتلال من الحسم، ولكن «انتفاضة السكاكين» انتفاضة أفراد لم يعودوا قادرين على العيش كما كانوا، واستطاعت «انتفاضتهم» حتى الآن تحقيق إنجازات ملموسة، مثل توجيه ضربات ملموسة لخطة نتنياهو عن السلام الاقتصادي وضم القدس وفصلها عن بقية الأراضي المحتلة، ولتعميق الانقسام وفصل غزة عن الضفة، حيث بدا الشعب الفلسطيني في هذه الأيام موحدًا كما لم يكن من قبل، وانتقلت الموجة الانتفاضية إلى مختلف مناطق فلسطين، وتحرك الفلسطينيون في الخارج لدعمها واستمرارها.