تحالف التجارة الآسيوي: قطب عالمي

رجب أبو سرية.jpg
حجم الخط

بقلم: رجب أبو سرية

انشغل العالم خلال الأسابيع الماضية بحدث انتخابات الرئاسة الأميركية، لدرجة أن الإعلام لم يهتم كثيراً بأحداث أخرى غاية في الأهمية، ومنها أو حتى في مقدمتها توقيع خمس عشرة دولة من منطقة آسيا والمحيط الهادي على أكبر وأهم اتفاق تجارة حرة يشهده العالم، وشملت هذه الدول كلاً من: الصين واليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا، وكذلك فيتنام.
أهمية هذا الاتفاق أنه يضم دولاً تشكل بمجموعها ثلث الاقتصاد العالمي، من حيث الإنتاج وحتى التسويق، كذلك تكمن أهميته في التوقيت الذي جاء فيه، وذلك بعد أن شهد العالم «حروباً» تجارية، كانت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب تدفع بها في كل اتجاه، في محاولة منها لفرض هيمنة اقتصادية أميركية على عالم ما بعد الحرب الباردة.
والحرب الباردة ظهرت بعد حربين عالميتين وقعتا في القرن الماضي، بين معسكرَين عالميَّين: الشرق والغرب، وحيث كانت القوة العسكرية حتى ذلك الوقت هي أداة السيادة والنفوذ العالمي، فقد كان حلف وارسو الذي يمثل الشرق الاشتراكي وحلف شمال الأطلسي الذي يمثل الغرب الرأسمالي، أحد وجهَي أو حقلَي الحرب الباردة، التي وصلت إلى أوجها بسباق التسلح النووي، ومن ثم حرب النجوم، وظهرت تجلياتها في حروب إقليمية محدودة في أكثر من مكان في العالم.
في حقيقة الأمر، إن قوة الاقتصاد كقوة عالمية ظهرت خلال الحرب الباردة التي تصدرتها كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي السابق، وكانت بدأت بفرض الاستسلام على كل من اليابان وألمانيا الدولتين العظميين اللتين خسرتا الحرب العالمية الثانية، فعوضتا ما خسرتاه في الحرب من القوة العسكرية بالنمو الاقتصادي، وما هي إلا عقود قليلة حتى كانت الدولتان تظهران كقوتين اقتصاديتين عالميتين، فيما كان الاقتصاد السوفياتي يعاني من ثقل أممي، والولايات المتحدة كانت تعوض من خلال ما تقوم بنهبه من ثروات العالم الثالث خاصة، باعتبارها أنها ظلت قوة استعمارية، بل ظنت أنها بكسبها للحرب الباردة قد توجت كدولة مهيمنة على العالم، بفضل قوتها العسكرية والسياسية.
لكن ثلاثة عقود مضت على انتهاء الحرب الباردة أظهرت انضمام قوة اقتصادية هائلة لمراكز القوة الاقتصادية العالمية، وهي الصين التي جمعت بذلك إلى قوتها العسكرية قوة اقتصادية، باتت تجعل منها قوة كونية تحسب لها الولايات المتحدة كل حساب، وكذلك العالم بأسره.
لا ننسى هنا، أيضاً ظهور الاتحاد الأوروبي كقوة اقتصادية - سياسية عالمية أخرى، كأحد نتائج، أو مظاهر عالم ما بعد الحرب الباردة، لينتقل حديث النظام العالمي ما بعد الحرب الباردة من حديث عالم القطب الأميركي الواحد في زعامة العالم، إلى عالم متعدد الأقطاب، بدت الحاجة إليه تبدو ملحّة خلال الأربع سنوات التي مضت، حين تولى ترامب إدارة البيت الأبيض، وبدأ بشنّ حروب تجارية، لم تقتصر على الصين ولا روسيا، بل شملت أوروبا وكندا واليابان، وكل العالم الآخر خارج الولايات المتحدة الأميركية.
قد نبالغ هنا، لو قلنا: إن إسقاط أميركا لإدارة ترامب في الانتخابات الرئاسية، تبدو محاولة لرأب الصدع مع الحلفاء التقليديين، وإصلاح ما أفسده ترامب، ويبدو ذلك من خلال إعلان الرئيس المنتخب جوزيف بايدن، إعادة الاعتبار لحلف شمال الأطلسي، وإعادة التركيز على روسيا كخصم أو حتى عدو دولي، لإعادة عقارب الساعة إلى أجواء الحرب الباردة، لكن يبدو ذلك أمراً مستحيلاً؛ ذلك أن اتفاق الشراكة الإقليمية الشاملة، بين دول آسيا والمحيط الهادي، لم يكن وليد ردة فعل على ما شنّه ترامب من حرب تجارية، بل جاء بعد ثماني سنوات من المفاوضات بين الدول الموقعة على الاتفاق.
أما أميركا فما زالت تحاول أن تخرج من أزمة تبدو أكثر عمقاً مما يعتقد الكثيرون، فقد أظهرت نتائج الانتخابات وجود مشكلة في جوهر النظام السياسي نفسه، من حيث هو نظام رئاسي مباشر، ربما كان النظام البرلماني أفضل وأكثر تعبيراً عن روح العصر، من نظام معمول به منذ أكثر من مائتي سنة. أما على الصعيد الخارجي، فقد ظهرت واضحة استحالة أن تفرض أميركا زعامتها بالقوة، وأن تواصل الخروج عن القانون الدولي بفرض سياساتها الخارجية في الشرق الأوسط وأميركا اللاتينية وشرق آسيا، وعدم الانسجام مع المنظمة الدولية. وحتى في جائحة «كورونا»، بعيدة التأثير على الاقتصاد العالمي، ظهر جلياً أن أميركا أولاً، ثم أوروبا وأميركا اللاتينية ما زالت تعاني من الجائحة بسبب انحياز النخبة السياسية الحاكمة للأثرياء، فيما ضربت الصين وكوريا وحتى اليابان مثلاً في احتواء الجائحة، رغم ظهورها في الصين أولاً، وهكذا تعافى الاقتصاد الصيني من تبعات الجائحة، فيما سيظل الاقتصاد الأميركي يعاني من تبعاتها لسنين قادمة.
حتى التنافس الاقتصادي الذي رافق عملية البحث عن المصل المعالج لـ»كورونا»، ظهر ما بين أضلاع مثلث التنافس العالمي، أي روسيا، والصين، وأميركا، وبعد أن أعلنت روسيا التوصل له منذ وقت، جاء الإعلان الأميركي - الألماني عن المصل الخاص بهما قبل أيام.
مجمل القول: إن العالم يحتشد الآن على أساس محاور اقتصادية عالمية، فبعد محور الشرق الآسيوي، تبدو أميركا بحاجة إلى التحالف مع أوروبا وكندا لتشكيل محور الغرب، فيما تبقى روسيا في الوسط بينهما، وهي القوة العسكرية العظمى، والقوة الاقتصادية الهائلة بالثروات الطبيعية من الغاز والنفط، والتي قد ترد بتشكيل محور ثالث، لكن كل ذلك يشي بظهور عالم متعدد الأقطاب، سيدفع إلى الوراء بالهيمنة الأميركية القائمة على أساس فرض الزعامة بالقوة، كما يسعى ترامب إلى فعل ذلك حتى داخل بلاده، فالصين حققت تقدمها الاقتصادي بجهد عمالها، وكذلك اليابان وكوريا.. فقط الولايات المتحدة هي من حققت ثروتها بالسطو على أموال وثروات الآخرين، أو ببيع السلاح في أحسن الأحوال، ويقيناً أن عالماً متعدد الأقطاب الاقتصادية، سيكون عالماً أقل توحشاً من عالم الجبروت العسكري والسياسي، والتوحش المالي الناجم عن ثروات الـ»هاي تيك»، وحروب التجارة العالمية، التي جعلت نصف ثروة الكون بين يدي حفنة من الأفراد، الذي يواصلون سيرهم للانتقال من حلقة المليارديرات إلى التريليونيرات!