رغم كافة الإشارات الواضحة، والمقدمات الأكثر وضوحاً، إلاّ أن الوصول إلى الهبّة الشعبية وتطورها إلى انتفاضة ثالثة، انتفاضة الكرامة، قد فاجأت كافة الأطراف، وحتى هؤلاء الذين كانوا يشيرون بين وقت وآخر، إلى أن هناك انتفاضة على الأبواب، كانوا يرددون هذا القول، لأسباب تتعلق بالتقاطعات السياسية، أكثر من كونهم على قناعة بما يرددون، وحتى لو أنهم على قناعة بذلك، فإنهم على الأرجح لم يكونوا يقصدون انتفاضة بهذا المستوى المختلف تماماً عن انتفاضتين سابقتين، الأمر الذي من الممكن القول معه، وبلا تردد، أن انتفاضة الكرامة قد فاجأت بالعقل كل الأطراف، رغم المؤشرات والمقدمات التي ما كان لها سوى أن تشكل القوة الدافعة وراء ما يجري اليوم في عموم الخارطة الفلسطينية وبهذا الشكل والزخم رغم تردد البعض في أن يطلق عليها «انتفاضة» لأن في وعيه أن الانتفاضة هي بمقاييس وخصائص انتفاضتين سابقتين.
هناك مؤشرات قوية إذن، فالتسوية السياسية قد فشلت، وسدت حكومة نتنياهو كل الطرق للوصول بها إلى دولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من حزيران، والاشتراطات ـ الاستحقاقات الفلسطينية لاستئناف العملية التفاوضية غير مقبولة ومرفوضة تماماً من قبل حكومة اليمين الفاشي في إسرائيل، بينما قيادات العالم للدول المؤثرة في السياسة الدولية، تجاهلت تماماً القضية الفلسطينية وهي تدلي برأيها وبمواقفها أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، ومن الناحية العملية فإن هذه القضية قد وضعت على الرف منذ زمن ليس بالقصير، إلاّ أن هذه المرة، فإن هذا الملف قد طواه النسيان ولفه الغبار والعثّ، وبات المجتمع الدولي مهتماً بأولويات جديدة في الحرب على الارهاب، وتداعيات الربيع العربي ومسألة الهجرة، مع أن كل ذلك كان بسبب عدم نجاح المجتمع الدولي بحل القضية الدولية المركزية، القضية الفلسطينية، وعجزه عن الضغط على الدولة العبرية للرضوخ للقوانين الدولية، في وقت استمرت إسرائيل بشن حروبها الدائمة والمستمرة على ما تبقّى من الأرض المحتلة، في الضفة الغربية بما فيها القدس، وقطاع غزة، دون أن تتمكن أية قوة دولية من لجم عدوانها الدموي، بينما تقوم الدولة العبرية بفرض خارطة جديدة على الأرض المحتلة عام 1967، خاصة في القدس المحتلة، وعلى الأخص، الأماكن الدينية المقدسة، المسجد الأقصى تحديداً، بهدف عملية تهويد منظمة، تبدأ من التقسيم الزماني والمكاني، وربما تنتهي بإعادة بناء ما يسمى بالهيكل المزعوم، تصريحات قيادات حكومية إسرائيلية، تنفي وجود فلسطين والفلسطينيين، وتنفي وجود أماكن عبادة مقدسة لهم، مسلمين ومسيحيين، الأمر الذي لا يشير فقط إلى التهديد الدائم المترافق مع خطوات عملية، لإلغاء وتطهير الأماكن المقدسة للمسلمين والمسيحيين، بل إلى الإطاحة بكل ما هو فلسطيني، وإذا كانت هذه الخطوات تأخذ بعدها الأهم والرمزي من المسجد الأقصى، فإن ذلك يعود بدرجة رئيسية إلى أن الدولة العبرية، تهدف إلى إحالة القضية الفلسطينية، من حقوق سياسية، إلى نزاع ديني، كشكل من أشكال الاعتراف، ولو رمزياً في بداية الأمر، بأن الصراع هو صراع ديني، يهودي في مواجهة إسلامي مسيحي، الأمر الذي ينسجم مع الدعوة للاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية.. إشارات ومقدمات كانت واضحة تماماً قبيل «الهبّة» التي تحولت إلى «انتفاضة الكرامة».
زيادة على ذلك، فإن حروباً إسرائيلية متتالية، في الضفة الغربية بما فيها القدس المحتلة، وحروباً دموية على قطاع غزة، لم توفر اطاراً كافياً لكي يتوصل الفلسطينيون إلى إنهاء الانقسام الذي بدلاً من ذلك تحول إلى «انفصال» من الناحية الواقعية، الأمر الذي شجع وما زال يشجع على أن انتفاضة فلسطينية شاملة، من شأنها أن تدفع أطراف الانقسام إلى توفير كل أسباب النجاح لها، وأهم عنصر من عناصر النجاح، الوحدة الوطنية الفلسطينية على أنقاض الانقسام والانفصال والتفسخ، وما زال هذا الرهان قائماً، رغم أن المؤشرات على ذلك محدودة للغاية!!
فالانتفاضة، توفر فرصة للوقوف على الخطة الإسرائيلية لإنهاء القضية الفلسطينية وفقاً لرؤية اليمين الفاشي الإسرائيلي، كما توفر الأداة التي تعيد القضية الفلسطينية إلى الأجندة الدولية باعتبارها القضية المركزية التي بسبب استمرارها ظهرت وبرزت الملفات الأخرى، التي كانت هامشية وأصبحت مركزية على أجندة المجتمع الدولي، كما أنها فرصة أمام الفلسطينيين أنفسهم للعودة عن الانقسام إلى الوحدة.. كلها مؤشرات كانت متوفرة طوال الأشهر، بل السنوات القليلة الماضية، مع ذلك، لم يتعامل أي طرف مع احتمال الوصول إلى انتفاضة شعبية، بجدية، خاصة على الجانيين، الفلسطيني والإسرائيلي.
الفلسطينيون، استبعدوا من الناحية العملية، لا الشعاراتية، الوصول إلى انتفاضة شعبية، وأغلبهم، إن لم يكن كلهم، اعتبروا أن التسلح الناري والأنفاق، الأداة الأساسية في أية مواجهة قادمة مع الاحتلال، من هنا نرى الإرباك في الجانب الفلسطيني، كونه ما زال قيد الصدمة ـ المفاجأة، وما زال بلا خطة أو قدرة على «التدخل»!!
أما الجانب الإسرائيلي، فإن مراجعة الدراسات الأمنية الصادرة عن مراكز البحث في الجامعات الإسرائيلية، ومؤتمرات البحث عن المستقبل، مثل مؤتمر هرتزليا، فإنها كلها لم تلحظ الربط بين هذه المقدمات والإشارات، والانتفاضة، شخصت الحالة، من دون أن ترى أن هذه الحالة توفر عناصر وشروط انطلاق انتفاضة من نوع جديد مختلف، لكنه شكل متجدد من أدوات الصراع مع العدو المحتل!!
بالصور.. ريال مدريد يخمد انتفاضة ألافيس بشق الأنفس
25 سبتمبر 2024