علاقات أنقرة والرياض جفاء وودادا

حجم الخط

عدلي صادق يكتب

في ساعة مبكرة من صباح السبت (21 نوفمبر الجاري) أعلنت الرئاسة التركية في أنقرة أن الرئيس رجب طيب أردوغان والعاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز قد اتفقا، عبر مكالمة هاتفية، على تحسين العلاقات الثنائية وحل الخلافات العالقة من خلال الحوار. وقبل وقت الصباح الباكر ذاك، أي في مساء الجمعة المتأخر؛ قالت وكالة الأنباء السعودية الرسمية إن الملك سلمان بن عبدالعزيز دعا الرئيس التركي أردوغان لـ”تنسيق الجهود المبذولة، في إطار جدول أعمال قمة مجموعة العشرين الافتراضية المزمعة خلال الساعات المقبلة”.

معنى ذلك أن الرياض أعطت أنقرة أفضلية تلامس إشراكها في تنسيق أعمال المؤتمر الذي تستضيفه، مصداقا لتصريح وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان آل سعود، الذي قال فيه: إن علاقات بلاده مع تركيا “طيبة وودية”!

وعلى الرغم من فجائية الإعلانين، على المستوى السياسي الأول؛ إلا أن العديد من الإشارات السابقة دلت على أن احتقان العلاقة بين البلدين يتجه إلى التخفف من بعض الصديد، ليس تحسبا للتغييرات في السياسة الأميركية وحسب، وإنما أيضا لكون البلدين اعتادا تاريخيا على الطابع المتأرجح للعلاقة بينهما، بحيث لا يفاجأ المراقبون، مثلما فوجئ المؤرخون، بانتقالها سريعا عبر الحقب، من أقصى الجفاء والصدام، إلى أقصى الوداد والتعاون.

وفي الحقيقة هناك عوامل كثيرة حافظت على هذا التأرجح، من أهمها المنحى الديني في الخط الإسلام السُني. فإن كانت السياسة وخلفيات المصالح تتطلب الوئام، فالطرفان من أهل السنة. أما إن كانت الغيوم ملبدة، فالسجال يجري حثيثا بين وهابيين أصوليين وصوفيين ذوي طرق وبركات مشايخ. ومن بين العوامل المهمة في التاريخ الحديث والمعاصر، الشراكة الاقتصادية، والتحولات في العلاقات البينية التي يشهدها المشرق العربي، والصراعات فيه، وأحداث شرقي المتوسط.

ولعل أطرف ما في العلاقات السعودية التركية، صداما ووئاما، أن لكل مرحلة، من الجفاء والوداد، أسبقياتها وذكرياتها، لذلك توصف تاريخيا بأنها متأرجحة. فمنذ أن لوحظت الإشارات الأولى للتقارب التركي ـ السعودي، ورُصدت إشارات أخرى تدل على موقف رسمي تركي أخف حنقا تجاه مصر، وقيل في السياق إن اتصالات أمنية حدثت؛ كان متوقعا أن تظهر مستجدات أخرى، بعد حسم الانتخابات الرئاسية الأميركية. ومن نافل القول أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، يتحرك في السياسة بعقلية التاجر، ما يجعل لزاما على من يتحالفون معه على أرضية عقائدية أو مبدئية أن يأخذوا حذرهم، مثلما يتعين على من يتحالفون معه على أرضية سياسية وإستراتيجية أن يحاذروا أيضا.

ولا ينطبق التنويه على ضرورة أخذ الحذر، على أنظمة الحكم في البلدان الأخرى وقوى المعارضة فيها وحسب، وإنما يشمل رجال الدولة الأتراك أنفسهم، الذين خبروا أردوغان، لكنهم مازالوا يسبقونه ويزايدون عليه في شرح موقفه، ولا يتوقعون أن يتغير في اليوم التالي، فيحرجهم. ففي معرض الجواب عن سؤال حول فرضية مقاطعة السعوديين البضائع التركية، رد نعمان كورتلموس، نائب رئيس حزب العدالة والتنمية، بهجوم ساخر ومهين ضد السعوديين، خرج فيه عن الموضوع وقال “يجب على هؤلاء أن يتعلموا أولا أن يعيشوا كدولة مستقلة”.

إن تصفير الخلاف مع السعودية، من شأنه جلب الاستثمارات الخليجية التي يحتاجها الاقتصاد التركي. وفي الحقيقة كانت ولا تزال لعبة أردوغان المفضلة، تبديل الحلفاء، وجعل الضد حليفا والحليف ضدا، ولا يُستبعد أن يمد حبل الوداد لآخرين

وفي الليلة نفسها، قال مسؤول كبير في المؤسسة الأمنية التركية، لموقع “مونيتور” وهو الأقرب إلى شخص أردوغان من حزبه “إننا نحاول إصلاح الجسور مع المملكة العربية السعودية، على أمل عزل أبوظبي. وعندما ينتهي الحظر المفروض على قطر، نستمر في العلاقة الجيدة مع الرياض”. فإن كان المسؤول الأمني يعرف أكثر من نائب رئيس الحزب كورتلموس، فإن الأول لا يعرف كل ما في جعبة أردوغان، ولا يستبعد أن يكون الغزل مع الإمارات الخطوة التالية!

في هذا السياق نفى المسؤولون السعوديون أن هناك خطة لمقاطعة المنتجات التركية، وفي أجواء قمة العشرين الافتراضية، أكدوا أنهم يسعون إلى حل مشكلة قطر، ونوهوا بلهجة مخففة إلى أن هذا الهدف يمكن تحقيقه بـ”معالجة المخاوف الأمنية المشروعة”. وليس أسرع من أردوغان من اختراع الترياق عندما يريد.

وفي الحقيقة تفتح صيغة التاجر الباب واسعا للتكهنات. فالطرفان التركي والسعودي لديهما ما يخشيانه بعد أن أطاحت الانتخابات الأميركية بالرئيس دونالد ترامب. فبالنسبة لأردوغان تحديدا، كانت أمامه مجموعة خيارات، بعد أن تردت علاقاته بجميع دول الجوار والمنطقة، وأطاحت الانتخابات الأميركية بترامب الذي وقف معه في أزمات التوسع البحري وأعمال التنقيب، وفي شمالي سوريا وليبيا.

منذ الأسابيع الأولى من عمل إدارة ترامب، وجدت حكومة أردوغان ضالتها في مستشار الأمن القومي الأميركي مايكل فلين. وعندما طرده ترامب، يممت حكومة أردوغان وجهها شطر وزارة الخارجية الأميركية، وركزت على مبعوثها إلى سوريا جيمس جيفري، وهي لا تتوقع أن تأخذ من إدارة بايدن ما حصلت عليه من ترامب.

وفي الواقع، لا يخطئ من ينظر إلى التقارب السعودي التركي، من زاوية احتياج كل منهما للآخر، في وجه رياح يتوقع الطرفان أن تهب على الجميع. فمن جهة السعودية، يلعب أردوغان بورقة تحويل قضية خاشقجي إلى المحكمة الجنائية الدولية، رغم أنه فشل في تحقيق ذلك حتى الآن.

ومن جهة أردوغان، فإن هذا هو الوقت الذي يحاول فيه الحصول من السعودية على ما يريد، وأن يعزز موقفه في الإقليم بعد تهدئة اللعب. فالخيارات التي أمامه كانت عديدة لكنها تقلصت إلى خيار واحد، وهو إجراء مصالحات واحتواء الأزمة مع السعودية وغيرها.

وفي موضوع السعودية تحديدا، يكتفي بتحقيقاتها في قضية خاشقجي، على قاعدة اعترافها بأن موظفين سعوديين قد ارتكبوا الجريمة باجتهاد خاطئ. عندئذ ستكون السعودية على وفاق معه ومتعاونة في أكثر من ملف. فقد استنفدت الأزمة عنده، كل زخمها، وقد استغلها على أكثر من صعيد إقليمي ودولي، وحتى على المستوى المحلي، عندما علت نبرته ضد السعودية في ربيع العام 2019 لحشد الناخبين في منافسة البلديات، ليتبدى أمام الجمهور بأنه المتشدد دفاعا عن حقوق الإنسان.

ثم إن تصفير الخلاف مع السعودية، من شأنه جلب الاستثمارات الخليجية التي يحتاجها الاقتصاد التركي. وفي الحقيقة كانت ولا تزال لعبة أردوغان المفضلة، تبديل الحلفاء، وجعل الضد حليفا والحليف ضدا، ولا يُستبعد أن يمد حبل الوداد لآخرين، إذ ليس أسهل عليه، من تأمين هجوع “الإخوان” والاستمتاع بطيب الإقامة، مثلما تهجع “حماس” في إقامتها ومقامها التركي!  

إن استمرار التوتر بين أنقرة والرياض لن يفيد أردوغان، وهذا الذي جعله يحافظ في ذروة الخلاف على شعرة معاوية بين البلدين، لكي يتحقق التشاور الاضطراري في ملفات يتوافق عليها الطرفان. ومثلما أسلفنا، إن سجل العلاقات المتأرجحة تاريخيا، بين البلدين، فيه بابان أو نوعان من الذكرى والحوادث. التساند والتوافق على موقف مشترك، والتضاد مع الخصومة في الباب الثاني. وعندما يختلفان يستذكران الأول بمناسباته وتواريخه وأحداثه، وفي الوداد ليس أبدع ولا أطيب من استذكار الحكايات الطيبة.

*عدلي صادق  –  كاتب وسياسي فلسطيني