قد تبتهج أوروبا بفوز بايدن – لكنها تهدد مشروع ماكرون الكبير

حجم الخط

فورين بوليسي – بقلم ميشيل باربيرو

إن عديدًا من العواصم الأوروبية استقبلت فوز جو بايدن في الانتخابات الرئاسية الأمريكية بالترحيب، وهم يتنفسون الصعداء بعد أربع سنوات من المشاكل مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. ولكن بمحاذاة الاستبشار بعودة أمريكا المنتظرة إلى التعددية، فإن فوز بايدن يُميط اللثام عن خلافات قديمة وجديدة بشأن دور أوروبا على الصعيد العالمي.

المسؤولين الفرنسيين، على وجه التحديد، سيطرحون على أنفسهم تساؤلًا مفاده إلى أي مدى سيؤدي تولي بايدن الحكم في الولايات المتحدة إلى عرقلة مساعيهم، التي تواجه صعوبة بالفعل، لكي يُصبح الاتحاد الأوروبي أكثر استقلالًا على الصعيد الجيوسياسي، وهو مشروع ماكرون المُقرب إلى قلبه في السنوات الأخيرة، إلا أن هذا المشروع بدا وكأنه يستمد قوته من تقريع ترامب لأوروبا ونهجه الأحادي غير التعددي.

رؤية ماكرون الإستراتيجية

وفي مقابلة مطولة أُجريت مع ماكرون مؤخرًا، تساءل الرئيس الفرنسي: «هل يؤدي تغيير الإدارة الأمريكية إلى تخلي الأوروبيين عن الجهود المبذولة لتحقيق قدر أكبر من الحكم الذاتي الإستراتيجي؟». وشرح ماكرون رؤيته، التي ترمي إلى أن تكون أوروبا قادرة على الاحتفاظ بمكانتها في عالم يُهيمن عليه عمالقة مثل الولايات المتحدة والصين، شرحًا وافيًا. وفي حين أن ماكرون وصف الولايات المتحدة بأنها من «الحلفاء التاريخيين»، فقد أبرز أيضًا الاختلافات الثقافية والجيوسياسية بين الطرفين الواقعين على جانبي المحيط الأطلسي، وأوضح أن أوروبا ينبغي أن تسعى وراء إثبات أهميتها الإستراتيجية «لنفسها» و«التصدي للاحتكار الصيني الأمريكي المزدوج».

ماكرون ذكر، بطريقة محددة عمليًا، أن هذا يعني ضرورة بذل مزيد من الجهود لتعزيز الدفاع الأوروبي بالتزامن مع بحث التخلص من الاعتماد التكنولوجي على القوتين العظميين فيما يتعلق بشبكات الجيل الخامس والتخزين السحابي للبيانات (نموذج للتخزين على شبكة الإنترنت، تُخزَّن فيه البيانات على خوادم ظاهرية متعددة، بدلًا عن أن استضافتها على خادم محدد).

وحث ماكرون أيضًا على اتخاذ إجراءات لمجابهة نفوذ واشنطن المالي، والذي صار واضحًا أكثر عندما وجهت العقوبات المالية الأمريكية تهديدًا لشركات الاتحاد الأوروبي التي تتعامل تجاريًا مع إيران بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الإيراني في عام 2018.

ماكرون والتناقض الفرنسي

ظل ماكرون لعدة سنوات يُردد ترنيمته التي مفادها أن فرنسا الأكثر قوة لن تتحقق سوى من خلال أن تكون أوروبا أكثر قوة، وهو الأمر الذي ظل لعقود جزءًا من بصمة فرنسا الوراثية السياسية. وظهر موقف الإليزيه تجاه حلف الناتو، على سبيل المثال، متناقضًا منذ عهد الرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديجول، الذي سحب القوات الفرنسية من قيادة الحلف في عام 1966، وهو القرار الذي اتُخذ نقيضه تماما بعد 40 عامًا فحسب.

قال كريستيان ليكيسن، أستاذ الشؤون الجيوسياسية والعلاقات الدولية في جامعة ساينس بو (معهد الدراسات السياسية بباريس): «إذا نظرت إلى الطريقة التي تموضعت فرنسا من خلالها في الغرب، بدءًا من ديجول فصاعدًا؛ فستجد أنها تتلخص تمامًا في: نحن حلفاء الولايات المتحدة، التي تجمعنا بها بعض القيم المشتركة، لكننا لسنا تابعين، لها ولابد أن نُعامَل باحترام».

زمن السيادة الأوروبية

لكن المسألة الرئيسة بالنسبة لباريس، في ظل غياب ترامب بوصفه عقبة، هي ما إذا كان شركاؤها الأوروبيون سيظلون يتبنون التوجه نفسه. وفي السنوات الأخيرة بدت أوروبا متأهبة لأداء دور أكثر استقلالية لنفسها، ويعود الفضل في ذلك إلى حروب ترامب التجارية، وتقريع حلف الناتو، وغيرها من المعارك السياسية والاقتصادية على كل الأصعدة من إيران إلى تغير المناخ.

 المسؤولين الفرنسيين والألمانيين، الذين يشعرون بالغضب من الضغط الاقتصادي الأمريكي، تحدثوا صراحة عن ضرورة استعادة «السيادة الاقتصادية». إذ عَنَّوَن جان كلود يونكر، الرئيس السابق للمفوضية الأوروبية، خطابه الذي ألقاه عن حالة الاتحاد في عام 2018، بـ«ساعة السيادة الأوروبية». وطالبت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، في الربيع الماضي، بتحقيق «سيادة إستراتيجية أكبر للاتحاد الأوروبي».

الانقسامات والخلافات تطل برأسها

لم يكن الكلام مهمًا بقدر الفعل، وهذا ما يبدو واضحًا أكثر عندما يتعلق الأمر بشؤون الدفاع. إذ أُنشئ صندوق تمويل الدفاع الأوروبي لتطوير التكنولوجيا العسكرية وتعزيز التعاون، إلا أن الموارد المخصصة لشؤون الدفاع من ميزانية الاتحاد الأوروبي في آخر سبع سنوات أقل بنسبة 40٪ من النسبة التي اقترحتها المفوضية أساسًا. تقول وكالة الدفاع الأوروبية إن إجمالي الإنفاق في هذا المجال عاد إلى مستويات ما قبل الأزمة المالية في العام الماضي، إذ لم يزل نصيب الأبحاث والتكنولوجيا في ميزانيات الدفاع أقل بكثير مما كانت عليه في عام 2007. وعلى الرغم من توقيع اتفاقية التعاون العسكري في عام 2018، لم يزل الجيش الأوروبي المتكامل، في هذه المرحلة، لا يزيد عن كونه مجرد تصور.

خطوط الصدع تلك أصبحت واضحة في الأسابيع الأخيرة؛ بسبب الجدل العام غير المعتاد بين ماكرون ووزيرة الدفاع الألمانية، أنجريت كرامب كارينباور، التي دعت في مقال لها، نُشر في صحيفة «بولتيكو» الأمريكية، إلى «ضرورة وضع حد لأوهام الاستقلال الإستراتيجي الأوروبي: لن يتمكن الأوروبيون من استبدال دور أمريكا الحاسم بوصفها موفرة للأمن»، وهو الرأي الذي أعرب ماكرون عن اختلافه الشديد معه فيما بعد.

الانقسامات تبدو، في بعض النواحي، أعمق مما هي عليه في الواقع. إذ كتب كلٌ من وزير خارجية فرنسا وألمانيا، في الأسبوع الماضي، عمودًا مشتركًا يُقران فيه أن الشراكة عبر المحيط الأطلسي ينبغي أن تصبح «أكثر توازنًا». وتدرك برلين أنه سيتعين على أوروبا تحمل مزيد من تقاسم المسؤوليات والأعباء، لا سيما في أعقاب قرار ترامب بسحب الآلاف من القوات الأمريكية من ألمانيا، وفي ظل استخدام مزيد من الموارد الأمريكية في المواجهة مع الصين.

ضرورة زيادة الإنفاق العسكري

يكمن الاختلاف الأكبر في التركيز. إذ تصر أنجريت كرامب كارينباور على حاجة أوروبا إلى زيادة إنفاقها العسكري وتولي بعضًا من المسؤوليات والمهام الأمنية التي تضطلع بها الولايات المتحدة في المناطق المجاورة للقارة العجوز، ولكن باستخدام طريقة تتعامل معها واشنطن بجدية أكبر وتؤدي إلى تعزيز العلاقات مع الناتو والعلاقات عبر المحيط الأطلسي، وليس عن طريق أن تحل أوروبا محلهم.

المشكلة التي سيواجهها ماكرون هي أنه حتى لو وافق على النهج الألماني، فلا يبدو واضحًا أنه سيتحقق. واستشهد بقول هانز مول، من المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية: «إن رأي أحد الوزراء لا يعبر بالضرورة عن توجه الحكومة بالكامل، خاصة بالنسبة لهذه الحكومة الألمانية الائتلافية الحالية التي جُمع أعضاؤها كيفما اتفق. وتتقلص إمكانية استمرار ألمانيا في النهج الحالي أكثر نظرًا لرحيل ميركل عن المستشارية المُزمع في العام المقبل».

من هذا المنطلق، قد يكون الخلاف الفرنسي – الألماني الذي ظهر في الشهر الجاري عبارة عن محاولة من ماكرون لمواصلة الضغط، نظرًا للافتقار العام في اليقين في اضطلاع برلين بواجباتها والتزاماتها بشأن الإنفاق الدفاعي. صحيحٌ أن ميزانية الدفاع الألمانية ارتفعت خلال السنوات الأخيرة، لكنها لم تزل أقل من سقف النسبة الاعتبارية 2٪ من الناتج المحلي الإجمالي التي يُفترض أن تُنفقها دول حلف الناتو على شؤون الدفاع.

الاتفاق النووي الإيراني – بايدن

إن التقديرات تشير إلى أن ألمانيا تنفق حاليًا قرابة 1.6 في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع، مقارنة بـ2.1 في المئة التي تنفقها فرنسا على المجال ذاته. أما فيما يتعلق بالإنفاق على المعدات الأساسية والأبحاث ذات الصلة والتطوير، على اعتبار أنه جزء من كل، تبدو ألمانيا واحدة من أدنى المعدلات بين الدول الأعضاء في حلف الناتو. وكثيرًا ما حذر كبار ضباط القوات المسلحة الألمانية ودقوا ناقوس الخطر بشأن حالة بوندسفير (الجيش الاتحادي الألماني) السيئة. وهي الحالة التي وصفها مول بأنها فوضوية.

بايدن..هل يعطل مشروع ماكرون؟

هذا الأمر، مثله مثل فوز بايدن بالرئاسة الأمريكية، هو الذي يُرجح ألا يحقِّق ماكرون أي تقدم كبير فيما يخص تصوره لقارة أوروبا الأكثر قوة. وبالإضافة إلى ذلك، تبدو دولًا أخرى أعضاء في الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، مثل بولندا و(بقدر أقل) المجر ودول البلطيق، أقل استعدادًا من ألمانيا للسعي نحو تحقيق الاستقلال الإستراتيجي عن الولايات المتحدة.

وفي السياق ذاته، يرى ليكيسن، من معهد الدراسات السياسية بباريس، أن «الرئيس الفرنسي منعزل تمامًا. إذ لم يزل عددُ من دول الاتحاد الأوروبي حريص إلى حد ما على تقبل الهيمنة الأمريكية، وهي النقطة التي يتعثر عندها مشروع ماكرون».

* صحفي إيطالي يُغطي الشؤون الفرنسية والدولية،

**نشر هذا المقال تحت عنوان  :  

Europe May Cheer Biden’s Win—But It Threatens Macron’s Grand Project

الكاتب  Michele Barbero