28 تشرين الأول 2015
الكثير من الإسرائيليين استهجنوا تصريحات رئيس حكومتهم بنيامين نتنياهو حول تحميل المفتي الحاج أمين الحسيني المسؤولية عن المحرقة التي طبقها هتلر وألمانيا النازية بحق أعداد كبيرة من اليهود، على اعتبار أن المفتي هو الذي أقنع هتلر بإبادة اليهود، ووصلت بعض ردود الفعل الغاضبة إلى حد الخجل لكون رئيس وزراء هو نتنياهو الذي يبرئ النازية من دم اليهود، بل أن الصفعة الكبرى جاءت من المستشارة الألمانية انجيلا ميركل التي قالت إن المسؤولية هي ألمانية وليست مسؤولية أي طرف آخر. ونحن إذ نعود هنا لتصريحات نتنياهو فليس من باب تكذيبه وهي مسألة يعترف بها الإسرائيليون بخصوص مسألة المحرقة التي كانت من بنات أفكار هتلر وأعلن عنها حتى قبل لقائه بالمفتي بسنوات وهي لا تتعلق فقط باليهود بل تطال أجناساً أخرى، بل لمعرفة السبب الحقيقي الذي يكمن في قيام نتنياهو بارتكاب هذا التزوير المتعمد والغبي في نفس الوقت.
الفكرة التي يحاول نتنياهو تسويقها للإسرائيليين والتي تسيطر على عقله وتصرفاته هي رفض فكرة الانسحاب من الأراضي المحتلة وتحديداً القدس، وحتى يقنع الجمهور بها لا بد من اقناعه بأن الفلسطينيين لا يريدون التوصل إلى تسوية حتى لو كانت على أساس حل الدولتين الذي يقول زوراً أنه يؤيده، فهو ما فتئ يكرر أن القيادة الفلسطينية رفضت مواقف ستة رؤساء حكومة في إسرائيل للتوصل إلى اتفاق سلام ، وأنهم لا يزالون يتمسكون بحق العودة إلى يافا وحيفا ويريدون إزالة دولة إسرائيل. ومن هنا جاءت الفكرة "العبقرية" لربط الفلسطينيين بالمحرقة التي هي من أكثر الأمور حساسية لدى اليهود، بمعنى أن الفلسطينيين يريدون منذ القدم إبادة اليهود، ولهذا – من وجهة نظره- لا تكمن المشكلة في الاحتلال وعدم الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي المحتلة فحتى لو فعلت إسرائيل ذلك لن تحصل على السلام والأمن.
المواجهات والحراك الشعبي اللذان نشهدهما هذه الأيام في القدس والضفة الغربية أحرجا إسرائيل كثيراً على الحلبة الدولية وبدآ يثيران خلافات داخل إسرائيل وانتقادات وتساؤلات على المستوى الدولي. وكل ادعاءات نتنياهو بأنه لا يريد تغيير الوضع الراهن في القدس لا تصمد أمام تصريحات ومواقف وزرائه وأعضاء الكنيست والمسؤولين من الائتلاف الحاكم، بل وأمام صرخات ودعوات الحاخامات الكبار وفتاوى الأصوليين "الحريديم" التي تحرم بشكل قاطع دخول اليهود باحات الحرم القدسي، بل كذلك لا تصمد أمام الإجراءات العملية التي طبقتها السلطات الإسرائيلية في الحرم عندما منعت المسلمين من دخول الأقصى في أوقات محددة لتسمح للمتطرفين اليهود بالزيارة والصلاة والاستفزاز هناك. ولعل تصريحات بعض أطراف الحكومة مثل ما قاله أمس نائب وزير المالية من حركة "شاس" يتسحاق كهان في مقابلات إذاعية بتحميل وزير الزراعة أوري أريئيل ونائبة وزير الخارجية تسيبي حطبولي مسؤولية سفك الدماء في إسرائيل، واللذين تسببت زياراتهما المتكررة للأقصى في تدهور الأوضاع وإثارة الأجواء التي تعرض حياة الإسرائيليين للخطر. وقد عادت حطبولي أمس إلى تكرار موقفها بأنها ترغب في رؤية العلم الإسرائيلي الذي هو رمز السيادة يرفرف على المسجد الأقصى، متجاهلة بذلك تصريحات نتنياهو الكاذبة.
الأحداث والتطورات لا تتعلق فقط بما يجري في الأقصى ولهذا لا تبدو الخطوات الإسرائيلية كافية لنزع فتيل التوتر، فالموضوع هو الاحتلال وما حصل في الأقصى كان بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، وما تحاول الإدارة الأميركية فعله لمساعدة إسرائيل لن يجدي نفعاً، وهذا هو سبب الحرج الإسرائيلي حيث باتت إسرائيل مطالبة بخطوات باتجاه التسوية السياسية، وهي ليست في وارد القيام بأي شيء بهذا الخصوص. ونتنياهو يشعر أنه في حالة دفاع عن النفس داخلياً وخارجياً، ولهذا هو يتخبط يميناً ويساراً ولكنه لا يحيد عن فكرة الاحتفاظ بالأرض الفلسطينية. والحل الوحيد الذي يطرحه، بعد إخافة الإسرائيليين من الفلسطينيين الذين يريدون القضاء عليهم، هو إجراءات أحادية الجانب تتيح لإسرائيل التخلص من عبء السكان الفلسطينيين في القدس ليضافوا إلى مواطني الضفة، وما يحاول تنفيذه هو سحب هويات قسم كبير من المقدسيين الذين يسكن غالبيتهم خارج السور الذي بنته إسرائيل حول القدس ومعهم سكان مخيم شعفاط وعدد هؤلاء حسب بعض الإحصائيات يصل إلى 150 ألف مواطن.
الإجراءات التي يريد نتنياهو تطبيقها بدعوى تخفيف حدة التوتر هي استكمال لخطة شارون أحادية الجانب التي في إطارها تحتفظ إسرائيل بما تريد من الأرض الفلسطينية بأقل عدد ممكن من السكان، والباقي يبقى مع الفلسطينيين ليفعلوا به ما يشاؤون، بحجة أن الفلسطينيين لا يريدون السلام ويرفضون العروض الإسرائيلية السخية.
لكن نتنياهو لا يتعلم من التاريخ ويريد أن يدفن رأسه في الرمال، ولا يرى في الحراك الشعبي الفلسطيني سوى محاولة محدودة لوقف الاستفزاز الفلسطيني في الأقصى. وهو لا يدرك أن الشعب الفلسطيني لم يعد قادراً على تحمل الاحتلال وسياساته وجرائمه، وأنه لو نجح في الوصول إلى تهدئة فلن تدوم والانفجار قادم لا محالة، إن لم تكن هذه المرة فستكون المرة القادمة غير البعيدة. ولن تنفع إسرائيل أية إجراءات لإدارة الاحتلال. والحل الوحيد لضمان الأمن والاستقرار هو التسوية العادلة للصراع.
وهناك شيء يمكنه أن يسرع في تحقيق مصالح شعبنا وانجاز حقه في الحرية والاستقلال في دولة سيادية هو الوحدة الفلسطينية التي على ما يبدو لا تزال بعيدة. فـ"حماس" لا تشعر بأن دماء الشهداء والتضحيات والنضالات تستوجب التخلي عن المصالح الضيقة والذهاب نحو المصالحة والوحدة، وهذا ينطبق على من يعارضون الوحدة في الجانب الآخر حفاظاً على مصالحهم.