بزنس بلا سياسة ولا وجع راس..!!

حسن خضر.jpg
حجم الخط

بقلم: حسن خضر

توقفنا، قبل أسبوع، عند هوية بن درور يميني، الإسرائيلية، وما يبدد سكينتها من التباس مصدره الأصل العائلي، والملامح الخارجية، وما يتصل بهذا وتلك من نبش وقائع ليست وردية، تماماً، في الذاكرتين الفردية والجمعية، بقدر ما يتعلّق الأمر بالعنصرية، ومكان ومكانة اليهود غير الاشكناز، في الرواية الصهيونية، وثقافة المجتمع الإسرائيلي، وبنيته الطبقية. وقلنا إن يميني، وهذه مفارقة مُدهشة، لا يستطيع أن يكون إسرائيلياً كاملاً في إسرائيل نفسها بل خارجها.
ففي الخارج يبدو ممثلاً لهوية جمعية متعالية تجرّدت من الذاكرة والتفاصيل، بل وفي مجرّد «اختلافه»، من حيث السحنة والأصل، ما قد يضفي على الهوية نفسها قدراً من التسامي، خاصة إذا تمثّل «الخارج» في أوساط متعلّمة وليبرالية. فهو الدليل الحي على نجاح الدولة الإسرائيلية في دمج وصهر إثنيات وجماعات ثقافية ولغوية مختلفة في بوتقة واحدة. وهذا مصدر ما عُرف، في وقت سابق، في علم الاجتماع الإسرائيلي بنظرية «بوتقة الانصهار»، التي لعب الجيش فيها دور الرافعة الرئيسة، والمعمل الهائل للهندسة الاجتماعية والثقافية. وقد خرجت النظرية من التداول. وفي أفضل الأحوال، ضعفت قيمتها التداولية في العقود الأخيرة إلى حد كبير. (كمرلنغ، مثلاً، حلل صعود الهوية الإسرائيلية وتفككها كرد على النظرية المذكورة).
والمفارقة، هنا، (ومن سوء حظ الأخ يميني، طبعاً) أن هذا «الخارج» بخصوصياته الليبرالية، ومؤهلاته الثقافية العالية، لم يعد في العقود الأخيرة بلا مُنغّصات. ففي مقالته عن زيارة دبي يقول، بعد التبرّع بمعلومات عن «زيارات لا تحصى إلى أماكن لا تحصى»، في العالم، التقى فيها، كالعادة بـ»طلاب وأكاديميين»، إن كل الجامعات الأميركية، تقريباً، حتى ذات النسبة العالية من اليهود، تبدي عداوة لإسرائيل، بل وحتى العداء للسامية.
ولكن دبي، في نظره، هي الاستثناء، فقد شعر هناك بتعاطف لم ينله في مكان آخر من العالم. وهذا في الواقع مُفتاح أوّل للتفكير في طمأنينة الهوية، وكمالها، في «الخارج». ففي استطراد غير وثيق الصلة بالموضوع يقول، إن الناس الذين التقاهم في دبي لا يشغلون أنفسهم بنقاشات سياسية غير مجدية بل تشغلهم المشاريع المشتركة (يعني بزنس بدون سياسة ولا وجع راس).
وهذه بيئة مثالية، في الواقع، لهوية مُلتبسة، إذا ما قورنت ببيئة «الطلاّب والأكاديميين» في الجامعات الأميركية، التي لم تعد مبهورة ببوتقة الانصهار، والمسكونة بأسئلة وتساؤلات مؤلمة ومُحرجة عن الاحتلال، والديمقراطية الإثنية، والأبارتهايد، ناهيك طبعاً عن هيمنة مؤسسة اليهودية الأرثوذكسية على قضايا الحياة والموت والزواج والطلاق في إسرائيل. وهذه أشياء ذات حساسية خاصة لدى اليهود الأميركيين، وأغلبهم من أتباع اليهودية الإصلاحية غير المُعترف بها في إسرائيل.
وفي سياق كهذا، تكف الهوية الجمعية عن كونها مجرّدة ومُتعالية، ويُستدعى ما فيها من مسكوت عنه. ولعل فيه، أيضاً، ما يمثل هامشاً توضيحياً لما عبّر عنه «الأكاديمي الأميركي» تشومسكي في معرض الكلام عن الجفاء المتزايد بين إسرائيل والأوساط الليبرالية واليسارية في أميركا والغرب، وصعود اليمين بوصفه أبرز وأقوى حلفائها.
بمعنى آخر، يصبح ممثل الهوية الجمعية المُجرّدة، وما كان دليل نجاحها في وقت ما، مسؤولاً عن مآزقها الأخلاقية والسياسية. هذا في الديمقراطيات الليبرالية، وطلاّبها وأساتذتها، في الغرب، أما في دبي فيبقى المسكوت عنه مسكوتاً عنه، لا لأن «الناس لا يشغلون أنفسهم في نقاشات سياسية غير مجدية»، كما يقول، بل لأن الناس هناك (بما فيهم الطلاّب والأساتذة) لا يملكون الحق في أن تكون لديهم وجهة نظر تخالف الحكومة.
وبما أن «الإحسان» يُقابل بالإحسان. يكيل يميني المديح للإمارات، يقول، إنها تتفوّق على السويد من حيث تمثيل النساء في البرلمان. وإنها «تقود» الكفاح لتمثيل «إسلام متسامح» ومساواة النساء، وإنها تفوّقت على تونس. وهذا يُذكر بالفيديو الذي رفعه نتنياهو، بعد التوقيع على «سلام إبراهيم» على الإنترنت وسحبه بسرعة، وتكلّم فيه عن «السلام بين دولتين ديمقراطيتين هما إسرائيل والإمارات». ومن المؤكد أن كثيرين اتصلوا به لتحذيره من الإفراط في هذا النوع من «البضاعة» الدعائية الرخيصة. ويبدو أن أحداً لن ينصح يميني «الراقص في العتمة».
على أي حال، المصدر الثاني لدبي كاستثناء، وما غمر يميني من تعاطف لم يحظ به في مكان آخر من العالم، يتمثل في حقيقة أن أحداً، في كل مكان آخر، لن يمكّنه من وضع قناع الأبيض على وجهه، ولا من سماجة فنتازيا الاستيهامات الكولونيالية. فقد تعوّد الإسرائيليون على «السلام البارد» مع عرب آخرين. كما يقول، ولعل في هذا الاعتراف، الذي يشبه زلاّت اللسان، بالمعنى الفرويدي، ما يفتح قوساً للتأويل.
ففي القاهرة أو عمّان، مثلاً (وهي من عواصم «السلام البارد») يحرص اليهود الإسرائيليون على كينونة شبحية، في الفضاء العام، ولا يندر أن يدعي الناطقون بالعربية منهم، (كما ذكر لي إسرائيلي من اليهود الشرقيين، في سنوات أوسلو الأولى)، أنهم من «عرب إسرائيل». أما في دبي فيبدو الأمر مختلفاً تماماً، لأن نقيض الكينونة الشبحية ينطوي على امتيازات مادية ومعنوية كثيرة. ولعل في هذا ما يترجم الدلالة السياسية والأيديولوجية، وحتى النفسية، لـ»سلام إبراهيم»، بوصفه ترجمة لصعود إسرائيل كقوّة إقليمية، ودورها الأمني كضامن جديد للأمن في الخليج. هذا ما يدركه يميني ومضيفوه. وفي سياق كهذا، لا يمثل هوية جمعية مجرّدة ومتعالية وحسب، بل وقوّة إقليمية صاعدة، أيضاً. (بلا كلام في السياسة، ولا وجع راس). فاصل ونواصل.