إذا كان بايدن يريد السلام الإسرائيلي – الفلسطيني ، فعليه أن ينفصل عن الماضي

حجم الخط

فورين أفيرز- أفي شلايم-

في العام 1967، جسّد وزير الدفاع الإسرائيلي في ذلك الحين، موشيه ديان، النزعة الانتصارية الإسرائيلية في أعقاب حرب الأيام الستة عندما قال لناحوم غولدمان، الزعيم الصهيوني الأميركي المخضرم: “أصدقاؤنا الأميركيون يقدمون لنا المال، والسلاح، والنصيحة. ونحن نأخذ المال ونأخذ السلاح، ونرفض النصيحة”. وقد عكس ذلك التصريح الاعتقاد السائد بأن إسرائيل يمكن أن تأخذ الدعم الأميركي كشيء مسلَّم به.

“وما الذي سيحدث إذا قالت لكُم أميركا في أي وقت: لا يمكنكم الحصول على المساعدة إلا إذا أخذتم النصيحة أيضاً”؟ سأله غولدمان. فأجاب ديان باستسلام: “عندئذٍ سيكون علينا أن نأخذ النصيحة، أيضا”.

هذا هو، باختصار، الخلل الأساسي في نهج الولايات المتحدة لصنع السلام في الشرق الأوسط منذ العام 1967: الطبيعة غير المشروطة لدعمها الاقتصادي، والعسكري، والدبلوماسي لإسرائيل. لقد قدمت الولايات المتحدة نفسها كوسيط نزيه، لكنها عملت أكثر في واقع الأمر كمحامية إسرائيل.

وأدى هذا إلى جعل سياستها لحل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني غير متماسكة، ومتناقضة، وهازمة للذات.

منذ العام 1967، ادعت واشنطن لنفسها احتكار الدبلوماسية المحيطة بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وقامت بتهميش الأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والجامعة العربية، والكرملين. لكنها فشلت في حل هذا الصراع نهاية المطاف، لأنها كانت غير قادرة على -أو غير راغبة في- استخدام نفوذها الهائل لدفع إسرائيل نحو الموافقة على اتفاق للوضع النهائي. وتشكل إسرائيل العميل الأكثر صعوبة للولايات المتحدة، لأنها ليست مجرد قضية سياسة خارجية فحسب؛ إنها أيضًا قضية سياسة داخلية.

كان الرئيس الأميركي المنتخب، جو بايدن، داعمًا قويًا لإسرائيل طوال حياته السياسية الطويلة. ولديه سجل تصويت ثابت مؤيد لإسرائيل في مجلس الشيوخ. وكان قد أعلن في مجلس الشيوخ في العام 1986 أن إسرائيل هي “أفضل استثمار نقوم به بقيمة 3 مليارات دولار”. وأضاف: “لو لم تكن هناك إسرائيل، لكان على الولايات المتحدة الأميركية أن تخترع إسرائيل لحماية مصالحنا في منطقة”. وليس بايدن صهيونيًا متحمسًا فحسب؛ إنه يعتقد أيضاً بأن جعل المساعدة العسكرية لإسرائيل مشروطة هو “خطأ فادح” و”شائن تماماً”.

خلال السنوات الثماني التي قضاها كنائب للرئيس، فعل بايدن الكثير لتلميع أوراق اعتماده الصهيونية، اللامعة مُسبقاً. وكان الرئيس في ذلك الحين، باراك أوباما، نفسه يرى المستوطنات الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية المحتلة على أنها انتهاك للقانون الدولي وعقبة أمام السلام. وقد حاول تأمين تجميد للاستيطان لمنح الدبلوماسية فرصة. لكن كل جهوده، وجهود وزير الخارجية آنذاك، جون كيري، أفسدها رئيس وزراء إسرائيل اليميني بنيامين نتنياهو.

ولكن، على الرغم من سجله الاستثنائي في دعم إسرائيل واعتزازه بصداقته الشخصية مع نتنياهو، فإن بايدن لم يسلم من أسلوب عمل إسرائيل القياسي المعتاد المتمثل في عض اليد التي تطعمها.

في العام 2010، مباشرة فور وصول بايدن في زيارة إلى إسرائيل، تم الترحيب به بإعلان موافقة مجلس الوزراء على إنشاء مجموعة جديدة من المستوطنات غير القانونية في الضفة الغربية. وقد تحمل بايدن بوداعة تلك الإهانة المحسوبة، مُصادقا بذلك على اعتقاد الإسرائيليين الإيماني بأنهم يستطيعون الاستمرار في الرد على كرم الولايات المتحدة بنكران الجميلوالازدراء.

وفي العام الأخير من ولايتها، منحت إدارة أوباما لإسرائيل حزمة مساعدات عسكرية لا تقل قيمتها عن 38 مليار دولار على مدى 10 سنوات. وكانت هذه أكبر حزمة مساعدات عسكرية يتم تقديمها في التاريخ كله. وتمشياً مع مبادئ بايدن، لم يتم ربط هذه المساعدة بأي شروط على الإطلاق.

ومع ذلك، في قضية واحدة، وفي الرمق الأخير من ولاية إدارتهما، تجاوز أوباما إرادة نائبه. وكان ذلك هو السماح بتمرير قرار لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، والذي أدان بشدة التوسع الاستيطاني الإسرائيلي. وكان ذلك القرار متماشياً مع السياسة الخارجية للولايات المتحدة. وقد أراد بايدن استخدام حق النقض (الفيتو) الأميركي لإفشال القرار، لكن أوباما اختار الامتناع عن التصويت وتم اعتماد القرار التاريخي رقم 2334 بأغلبية 14 صوتا.

* * *

عندما يدخل بايدن البيت الأبيض في 20 كانون الثاني (يناير)، سوف تكون مسألة إسرائيل وفلسطين في مرتبة متدنية للغاية في قائمة أولوياته. ومع ذلك، سوف يتعين عليه في مرحلة ما التعامل مع هذه القضية، ولو كان ذلك فقط بسبب مركزيتها في سياسات الشرق الأوسط. وستكون مهمته الأولى هي مواجهة الإرث السام الذي تركه سلفه، دونالد ترامب، الرئيس الأكثر تعصبا لإسرائيل في تاريخ الولايات المتحدة. ولم تكن لدى ترامب سياسة خارجية متماسكة تجاه الشرق الأوسط ككل بقدر ما كانت لديه سلسلة من التحركات المتهورة وغير المدروسة، والتي انتهك الكثير منها مبادئ الشرعية الدولية.

ومع ذلك، عندما تعلق الأمر بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني، كان ترامب ثابتا ومتساوقا تماما -في انحيازه لإسرائيل. كانت سياسته الخارجية غير قابلة للتمييز تقريبًا عن أجندة اليمين الإسرائيلي: الاعتراف بسيادة إسرائيل على مرتفعات الجولان السورية المحتلة؛ نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس؛ إلغاء القنصلية الأميركية العامة في القدس، والتي شكلت قناة الاتصال الرئيسية للولايات المتحدة مع السلطة الفلسطينية؛ قطع التمويل الأميركي عن وكالة الأمم المتحدة التي ترعى اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)؛ سحب المساعدات الأميركية الحاسمة للفلسطينيين؛ وإغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن.

ثم توُج الانحياز المستقطب العابر للحزبين الذي انتهجه ترامب بإعلان خطة لمستقبل إسرائيل والأراضي المحتلة، وهي الخطة التي روج لها بحماسة وبصوت عالٍ باعتبارها “صفقة القرن”. ومن حيث الجوهر، لم تكن هذه خطة سلام على الإطلاق، وإنما رخصة مجانية لتوسيع إسرائيل على حساب الفلسطينيين. وقد دعت الخطة إسرائيل إلى ضم حوالي 30 في المائة من مساحة الضفة الغربية رسميًا، بما في ذلك الكتل الاستيطانية غير القانونية، ووادي الأردن الذي يشكل سلة الغذاء للسكان الفلسطينيين.

وكما كان متوقعاً، رفضت السلطة الفلسطينية الخطة –بل ورفضت حتى مناقشتها. وفي المقابل، رحب نتنياهو بالخطة، لكنه لم يتخذ أي إجراء لتطبيقها لأنه لم يرَ أي فائدة في الضم الرسمي لأجزاء من الضفة الغربية. وهو راضٍ عن الوضع الراهن الذي يمنح إسرائيل حرية التصرف في مواصلة ضمها الزاحف للأراضي الفلسطينية من دون المغامرة باحتمال تعرضها لعقوبات دولية.

يمكن التنبؤ بأمان بأن بايدن سوف ينخرط في الحد من الأضرار فقط بدلاً من الانقلاب الشامل على إرث ترامب السام. فقد وعد الرئيس المنتخب باتخاذ خطوات فورية لإعادة المساعدات الاقتصادية والإنسانية التي تمس الحاجة إليها للفلسطينيين. وتعهد بإعادة فتح القنصلية الأميركية في القدس الشرقية، لكنه تعهد بعدم إعادة السفارة الأميركية إلى تل أبيب. وهو يعارض التوسع الاستيطاني والضم الإسرائيلي الرسمي لأي جزء من الضفة الغربية، لكنه ما يزال يرفض ربط المساعدات الأميركية بسجل إسرائيل في مجال حقوق الإنسان أو بمدى التزامها بالقانون الدولي. وهو متمسك بشدة بسياسة ما قبل ترامب، المتمثلة في تفضيل حل الدولتين للصراع الإسرائيلي الفلسطيني.

باختصار، من المرجح أن يعود بايدن إلى الخط التقليدي للحزب الديمقراطي، الذي يقضي بتقديم الولايات المتحدة في دور ما يُدعى “الوسيط النزيه” لمساعدة الطرفين على التوصل إلى تسوية تفاوضية. وبالمعاني العملية، سوف يعني هذا إحياء ما كان يُطلق عليها اسم “عملية السلام” –إلى أن أخرجها نتنياهو عن مسارها في العام 2014، عندما توقفت عن خدمة أهدافه الخاصة.

لكن عملية السلام كانت دائمًا مجرد تمثيلية سخيفة -كلها “عملية” ولا “سلام”. وهي لم تقرّب الفلسطينيين أبداً من تحقيق هدفهم المتمثل في الاستقلال وإقامة الدولة في السنوات السبع والعشرين التي انقضت منذ توقيع اتفاقية أوسلو الأولى في حديقة البيت الأبيض، والمصادقة عليها بمصافحة مترددة بين رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، إسحاق رابين، وزعيم منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات. كان ما فعلته عملية السلام هو إعطاء إسرائيل الغطاء الذي احتاجته لمواصلة السعي إلى إنجاز مشروع استعماري عدواني عبر الخط الأخضر -الحدود الدولية لما قبل العام 1967.

إذا كان بايدن يريد سلامًا دائمًا وحقيقيًا، فعليه أولاً أن يعترف بأن الالتزام الأميركي غير المشروط تجاه إسرائيل، والذي كان هو نفسه على ارتباط وثيق به، قد فشل تمامًا في تحقيق الهدف المعلن المتمثل في تحقيق حل على أساس الدولتين.

لقد أصبح من المألوف اليوم أن نقول إن حل الدولتين قد مات. فالحجم الهائل للمستوطنات التي أقيمت في الضفة الغربية، والتي يقطنها أكثر من 650 ألف يهودي، يستبعد أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية قابلة للحياة ومتصلة جغرافيا. وبالتالي، أصبح هناك دعم متزايد من الجانب الفلسطيني، ولو أنه ليس من جانب السلطة الفلسطينية، لفكرة الدولة الديمقراطية الواحدة بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط مع حقوق متساوية لجميع مواطنيها.

ليس من المتوقع مطلقاً أن يتبنى بايدن مثل هذه الفكرة المتطرفة. وإذا تمسك بالفكرة القديمة لحل الدولتين، فإن عليه على الأقل أن يأخذ بعين الاعتبار التغييرات التي حدثت في إسرائيل والمنطقة في العقدين أو الثلاثة عقود الماضية. كانت إسرائيل تتحرك بثبات نحو اليمين، مع ظهور تجليات مقلقة ومنذِرة للعنصرية والشوفينية، وتأكيدٍ أكثر شدةً على العنصر اليهودي -بدلاً من العنصر الديمقراطي- لهويتها. ويجعل قانون الدولة القومية الذي صدر في تموز (يوليو) 2018 من إسرائيل دولة فصل عنصري من خلال التأكيد على أن لليهود حقًا “فريدًا” وحصرياً في تقرير المصير القومي في المنطقة الواقعة تحت حكمها.

وهكذا، بالإضافة إلى تمييز الاتجاهات غير الليبرالية والمناهضة للديمقراطية في السياسة الإسرائيلية والاعتراف بوجودها، سوف يحتاج بايدن إلى تطوير حوار استراتيجي حقيقي مع الفلسطينيين من خلال النأي بنفسه عن سياسات سلفه، والاعتراف بأن للفلسطينيين حقوقًا وطنية مشروعة وبأنهم يتمتعون في ذلك بدعم شعبي ساحق في جميع أنحاء العالم العربي والإسلامي.

كما يجب أيضًا مراعاة التغييرات التي حدثت في ميزان القوى الإقليمي وأخذها في الاعتبار. وكان التغيير الرئيسي هو أن دول الخليج العربية لم تعد تنظر إلى إسرائيل على أنها عدو وتهديد، وإنما كحليف استراتيجي في صراعها مع إيران. وثمة تغيير ذو صلة هو التراجع الملحوظ في التزام دول الخليج بقضية إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة. وفي النصف الثاني من العام 2020، قامت أربع دول عربية بتطبيع علاقاتها مع إسرائيل في إطار اتفاقيات إبراهيم: الإمارات العربية المتحدة، والبحرين، والسودان والمغرب.

بالنسبة لإسرائيل، سوف يكون إبرام اتفاق سلام مع أي دولة عربية موضع ترحيب، خاصة إذا كان من دون تكلفة، مثل الاتفاقيات الأربعة الأخيرة. لكن الجائزة الكبرى ستكون التطبيع مع المملكة العربية السعودية. وعلى عكس دول الخليج الأصغر، فإن لدى المملكة العربية السعودية الكثير لتخسره من التنكر العلني للفلسطينيين. إنه موقف يهدد باستدراج رد فعل عنيف في الداخل وفي أجزاء من العالم الإسلامي على حتى سواء. وحتى الآن، قاومت المملكة الضغوط الأميركية للإعلان عن تعاون استخباراتي وأمني رسمي مع إسرائيل. وهي تتمسك بالتزامها تجاه الفلسطينيين وتجاه مبادرة السلام العربية التي قُدمت في العام 2002 -والتي عرضت على إسرائيل السلام والتطبيع الكاملين مع جميع الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية، وعددها 22، كمكافأة مقابل الانسحاب الإسرائيلي من جميع الأراضي العربية المحتلة، والموافقة على قيام دولة فلسطينية مستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة، والتي تكون عاصمتها القدس الشرقية. كما تدعو المبادرة إلى “تسوية عادلة” لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين على أساس قرار الأمم المتحدة رقم 194.

كانت هذه هي صفقة القرن الحقيقية. وقد تبنت السلطة الفلسطينية، برئاسة ياسر عرفات، هذه المبادرة على الفور. وفي المقابل، رفضت الحكومة الإسرائيلية برئاسة رئيس الوزراء حينذاك، أرييل شارون، المبادرة ووصفتها بأنها “ليست بداية”. وأعادت جامعة الدول العربية تأييد مبادرة السلام العربية في مؤتمري قمتها للعامين 2007 و2017. لكنّ نتنياهو أعاد رفضها في العام 2018 كأساس لمفاوضات مستقبلية مع الفلسطينيين، ولم تمارس أي حكومة أميركية أي ضغط على إسرائيل لقبولها.

إذا كان بايدن يريد أن يكون له تأثير حقيقي، فإن أفضل رهان له هو إحياء مبادرة السلام العربية واستخدامها كأساس لمفاوضات إسرائيلية فلسطينية بقيادة الولايات المتحدة.

وسوف يترتب على ذلك فرض عقوبات على إسرائيل في حال استمرار تعنتها. ومن ناحية أخرى، سوف تمكِّن مثل هذه السياسة المملكة العربية السعودية وتشجعها على الصعود إلى متن قطار السلام. وسوف تتمتع قيادة أميركية جريئة على هذا النحو بدعم دولي واسع، بما في ذلك من العالم العربي، والعالم الإسلامي، والاتحاد الأوروبي ومعظم أعضاء الأمم المتحدة.

وأخيرًا وليس آخرًا، سوف تتمتع مثل هذه السياسة بدعم الجناح التقدمي للحزب الديمقراطي وأغلبية اليهود الأميركيين. ويشعر اليهود الأميركيون، والشباب منهم على وجه الخصوص، بخيبة أمل من إسرائيل بسبب استعمارها وانتهاكاتها المنهجية لحقوق الإنسان الفلسطيني وتجالها المتكرر للقانون الدولي. وما تزال أقلية فقط من اليهود الأميركيين تؤيد السياسة التقليدية، ممثلة في لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية، والتي تقدم لإسرائيل دعماً أعمى.

إذا اختار بايدن أن يرتدي عباءة صانع السلام، فسيتعين عليه أولاً تحرير السياسة الخارجية الأميركية من القبضة الميتة للحكومة الإسرائيلية وأعوانها في الولايات المتحدة، وأن يتحلى بالشجاعة السياسية اللازمة لمتابعة اقتراح غولدمان: جعل المساعدة الأميركية مشروطة بقبول نصيحة الولايات المتحدة. ومثل أي سياسي آخر، للرئيس المنتخب الحرية في تكرار أخطاء الماضي. لكن اختيار ذلك ليس إلزامياً.

* أفي شلايم – أستاذ فخري في العلاقات الدولية بجامعة أكسفورد، ومؤلف كتاب “الجدار الحديدي: إسرائيل والعالم العربي”.