تخدم الانتخابات في أي بلدٍ في العالم فكرة الديمقراطية والانتقال الديمقراطي لأنها تجسد فكرة التنوع السياسي بأنّ هناك مجال سياسي مفتوح لكل المتنافسين لإدارة السلطة السياسية والشأن العام، وأن توقيع الرئيس الفلسطيني على مرسوم إجراء الانتخابات في الأراضي الفلسطينية، أعطى فكرة مهمة بأنّ الديمقراطية الفلسطينية منخرطة بالعدالة الانتقالية وللديمقراطية بشكل عام، فأيّة أدوار لوسائل لإعلام الفلسطينية في هذه الانتخابات؟ تعمد الصحافة إلى إنارة الناخب كي يتخذ قرارا عقلانيا مستنيرا قائما على البراهين والحجج عند قيامه بعملية الاقتراع، وتسمح الصحافة للناخب بالتعرّف على شيئين كما يسميهما أرسطو؛ أولهما "شخصية المترشح"، هل هو الرجل المناسب للمنصب المناسب؟ وهل عنده كاريزما ولديه قوة نفسية وقادر على إتقان فن الإقناع والحِجاج والمواجهة؟ هل تتوفر فيه خصال الرئيس؟، هل لديه خطاب عقلاني؟ ولكنّ الإعلام الفلسطيني للأسف لم يعطنا الفرصة في الانتخابات السابقة حتى نتبيّن خصال الأشخاص المترشحين، إذ سبقت المضامين التي قدمها شكل المترشحين على المضمون كأنّه يطلب رضا الناس بأي طريقة (الحذلقة اللغوية)، فلم نرى أي تفاعل بين المترشحين، وما قدمته وسائل الإعلام الفلسطينية عبارة عن مترشحين يتحدثون للصحافة فقط.
وفيما يتعلق بالمعيار الثاني للإتّصال السياسي كما يسميه أرسطو "بناء الخطاب"، هل البناء جيد ويتضمن خطاب منطقي؟ وهل به حجج قائمة على الفهم؟، وهذا أيضًا لم نشاهده في الصحافة الفلسطينية لأنّها فقط قدمت السيرة الذاتية للمترشحين، وكان من الأجدر أن يكون هناك مناظرات تلفزية تطرح سؤالا واحدا على المترشحين حتى نتمكن من تقييم اجاباتهم إذ كان من الممكن التركيز مثلًا على أربع قضايا فلسطينية جوهرية وأساسية ويجيب عنهّا المترشحون حتى نقارن أين الإجابات الدقيقة بينهم! أدّت الصحافة الفلسطينية دورا واحدا فقط في الانتخابات الفلسطينية السابقة وهو سرد وقائع أنشطة حملات المترشحين للجمهور الفلسطيني دون تفسيرها، فعلى سبيل المثال لم تنظّم الوسائل الإعلامية لقاء تلفزيونيّا يستضيف مترشحًا وأمامه العديد من الخبراء ويجيبهم عن الرقمنة الاتصالية في الإدارات والوزارات الفلسطينية، أو في مسائل تتعلق بالدبلوماسية الرقمية مثلا، زد على ذلك غياب النقاش الانتخابي في وسائل الإعلام الفلسطينية، إذ لم تكن قادرة على التفسير ووضع الأحداث الواقعة في سياقها.
قيّم الناخبون الفلسطينيون المترشحين بناءً على شخصياتهم بل وعلى حسب العلاقة العاطفية بالمترشّح والعائلة والعشيرة والبلدة التي ينتمي إليها لا على برامجهم، فلم تساعد الميديا في فلسطين الناخبين على فهم برامج المترشحين وأفكارهم، لكنّها ساعدت المترشحين على إظهار شخصياتهم فقط. لا يمكن للإعلام الفلسطيني أن يتطور إذا لم تكن لديه بوصلة أو وجهة، لأنّ المال الفاسد يتحكم في مضامين البرامج التافهة بسبب غياب الشفافية في بعض المؤسسات الإعلامية، فهي لا تخضع إلى تنظيم محكم إذ أصبح الصحفيون هم الذين يديرون الخط التحريري دون الرجوع إلى المجتمع أو الجمهور. وذلك بسبب محدودية الخطاب التفكّري وغياب الحريات الصحفية ومحدوديتها من انفتاح غرف الأخبار على الجمهور ومشاغله والتفاعل والحوار معه، فلم يطور الإعلام الفلسطيني أي نموذج تفاعلي مع الجمهور خلال الانتخابات السابقة، وهو ما يفسّر محدودية آليات التنظيم الذاتي، على غرار مجالس الصحافة التي تسمح للجمهور بتقديم شكاوي في المضامين الصحفية الزائفة، وندرة ما يسمى وظيفة الموفق الصحفي (Ombudsman)، الذي يتلقى شكاوى الجمهور.
إذ قلّصت الصحافة الفلسطينية من فرص النقاش وثقافة الحوار مع الجمهور والانفتاح عليه وهو ما قلّص أدوارها وقيمتها التحريرية. إذًا، ساهمت وسائل الإعلام الفلسطينية التقليدية في أزمة الديمقراطية في فلسطين وهو جعلها ديمقراطية غير ناضجة، وذلك نتيجة اختزالها السياسة في الإتّصال ولأنّها كانت مرتبطة بالأحزاب السياسية وخادمًة لها في جوهرها ولم تكن تراقبها، ويبدو أن جزء لا بأس به من الفلسطينيين سيتابعون أخبار الحملات الانتخابية القادمة من خلال فايسبوك لأنه أًصبح استخدامه وسيلة روتينية، وبهذا سيستخدمه المترشحين كوسيلة للتسويق السياسي لأفكارهم وبرامجهم وللتأثير الماكر على إدارة الناخبين عبر الصفحات الممولة، فهل ستتابع لجنة الانتخابات المركزية إنفاق الأموال عبر فيس بوك؟ لا سيما في ظل انتشار مصطلح جديد اسمه "الحملات المضادة"، لتحطيهم وهدم حملات الاخرين، على عكس ما نرى في الانتخابات في أوروبا التي يتعاون فيها الاتحاد الأوروبي مع فيس بوك لتأمينها.
ختامًا، إن بناء الإعلام الجديد الملتزم بالمعايير الكونية الديمقراطية والقائم على معايير المهنية، يمثل عملية مركبة طويلة المدى ويحتاج إلى شروط تشريعية (نصوص قانونية)، وآليات تنظيمية تضمن إدارة مستقلة للقطاع برمته، وإلى مؤسسات إعلامية قوية متطورة قادرة على إنتاج مضامين إعلامية ذات جودة عالية وصحفيين أكفاء وملتزمين بأخلاقيات المهنة في كل ممارساتهم. وينبغي أنّ يجلس المكلفين بملف الإعلام الفلسطيني حول طاولة ويقولون هذا الإعلام الذي نريد في الانتخابات المقبلة، وتحديد الوسائل اللازمة لتحقيق إعلام الجودة الذي نريد، وما ودون ذلك ستبقى الديمقراطيّة الفلسطينية المعاشة شكلية ناشئة. وأنّ نزاهة الانتخابات لا تقاس بيوم الانتخاب لكن بكل المسار الذي يؤدي إلى يوم الاقتراع.