سياسة بايدن الخارجية : «عودة أميركا»

حجم الخط

علي الجرباوي يكتب

في خطابٍ موجّه للأميركيين وللعالم على السواء، وجاء مكرّسا لتحديد ملامح السياسة الخارجية لإدارته الجديدة، أطلق الرئيس بايدن من على منبر وزارة خارجية بلاده، شعار أن «أميركا قد عادت»، وأعلن العودة للانخراط النشط في ممارسة الدبلوماسية الأميركية في الشؤون الدولية. كان الرئيس الأميركي قاصداً في توجيه رسالة واضحة، لا لُبس فيها، عن تغييره منطلقات وقلب مسار السياسة الخارجية لبلاده، عمّا كان عليه الحال في عهد إدارة سلفه ترامب. ولذلك كان ضروريا له استبدال شعار «أميركا أولا»، الذي قاد ترامب من خلاله سياسة عدائية وهجومية ضد أطراف عديدة في العالم، منها حلفاء تقليديون للولايات المتحدة، بشعار جديد – قديم يُنبئ من خلاله جميع الأطراف المعنيّة أن «أميركا قد عادت» لوضعيتها التقليدية في ممارسة دورها القيادي الفاعل على الصعيد الدولي.

تكمن قوة النظم السياسية الديمقراطية الفاعلة في امتلاكها قدرة ذاتية متاحة لها دوريا لتعديل سياساتها، الداخلية والخارجية. فالانتخابات الدورية المنتظمة التي تجريها هذه النظم، ليست مجرد أحداثٍ شكلية صورية تحدث، أو إجراءات موسمية يُلجأ إليها عند الضرورة القصوى، وتكون مفرغة من المضامين، وتأتي فقط بهدف تثبيت مَن في الحكم. بل تحمل الانتخابات الديمقراطية في جعبتها قدرة حقيقية على تجديد التعاقد بين الشعب، بصفته مصدر السلطات، مع الجهة الحاكمة المنتَخَبة من قِبل الشعب، لتعبّر عن رؤيته ورغباته وتوجهاته خلال فترة محددة زمنيا، يجري في نهايتها إخضاع الجهة الحاكمة لامتحان جدارة، إما يؤهلها للاستمرار أو يُطيح بها ويأتي بمن يحلّ محلّها. وبالتالي، فإن الانتخابات في النظم الديمقراطية تحمل في جعبتها قدرة تعديلية حقيقية على نهج السياسات المتّبعة من قِبل النظام السياسي، ما يعني أنها عملية جدّية بالغة الأهمية، لما تحمله في طيّاتها من إمكانية فعلية للتغيير. ويمكن تلخيص هذه الإمكانية، والقدرة التي تحملها، بما يُمكن إطلاق تعبير «بندول ساعة الحائط» عليه. فهذا «البندول» يتسمّ بخاصية التحرك باتجاهيْن متضاديْن، وهي نفس الخاصية التي تتمتع بها النظم الديمقراطية، والتي تسمح بتغيّر اتجاه السياسات مع حدوث كل عملية انتخاب. هذا هو جوهر أهمية الانتخابات التي، مع توفّر شروط أخرى، تشكّل الأساس الضروري لوجود النظام الديمقراطي واستمرار تمتعه بالحيوية.

بفوز بايدن في الانتخابات، والتي بسببها أدخل ترامب أميركا بأزمة غير مسبوقة، جرى تغيّر «البندول» من اتجاه إلى الاتجاه المغاير. وفي خلال الأسبوعيْن الأوليْن على استلامه مقاليد السلطة، وقّع بايدن عشرات «الأوامر التنفيذية» التي استبدل بموجبها سياسات سلفه في العديد من القضايا الجوهرية، ومنها ما يتعلق بالعودة للمشاركة في منظمات واتفاقيات دولية، ومسائل تتعلق بالهجرة، والتصدي لجائحة كورونا، ومواجهة الاقتصاد الأميركي المتداعي. وفي خضمّ هذه التحولات الجوهرية المتواصلة، كان على الرئيس الجديد إعلام شعبه والعالم بالأسس الجديدة التي سترتسم بموجبها العملية التحويلية للسياسة الخارجية الأميركية.

يعي بايدن مدى الضرر الذي خلّفته سياسات سلفه على الصعيد الخارجي، والتي أدّت إلى فقدان العديد من الأطراف الدولية الثقة بأميركا، ما نجم عنه تراجع مكانتها عالميا. ولتحقيق المصلحة القومية العليا للبلاد، أعلن بايدن في خطابه المذكور عن نيّته باستعادة مكانة أميركا المهدورة. وهذا يتطلّب بالأساس استعادة ثقة الآخرين بقدرة أميركا واستعدادها للعب الدور القيادي المطلوب منها على الصعيد الدولي. وبما أن هذه المهمة ليست سهلة في ضوء ما جرى خلال فترة ترامب في البيت الأبيض، كان على بايدن أن ينتهج مع العالم مقاربة صريحة، وأن يُرسل رسائل تطمينية، بأن يُعلن عن مبادئ واضحة ستحكُم سياسة إدارته الخارجية. يعرف بايدن، وهو صاحب الخبرة الطويلة والعميقة بالشؤون الدولية، أن عليه وعلى فريقه تقع مهمة ترميم العلاقات الأميركية مع الفواعل المتعددة على الصعيد الدولي، وأن ذلك يحتاج إلى اتباع سياسة خارجية مختلفة تماما عن سياسة سلفه.

بهدف البدء بعملية الترميم، أكّد بايدن أن سياسة إدارته الخارجية ستعود لتستند إلى إعلاء قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان. ففي ذلك مدخل واضح يستطيع من خلاله أن يُفرّق بين الحلفاء والخصوم، وأن يدفع قُدماً بالمصالح الأميركية المغلّفة بقيم إيجابية. من هنا جاء انتقاده لممارسات روسية وصينية، وموقفه من ضرورة إنهاء الحرب في اليمن، وإعادة الحكم المدني لميانمار بعد استيلاء العسكر على مقاليد السلطة في البلاد. وهذا الاستناد القديم المتجدد يعطي مؤشّراً واضحاً للحلفاء يمكنهم من خلاله رسم السياسات المشتركة مجدداً مع أميركا، كما ويُعطي أداة قياس للآخرين لحساب تكلفة سياساتهم خلال المواجهة معها.

من خلال «أميركا قد عادت» يحاول بايدن طمأنة حلفاء أميركا التقليديين أن إدارته ستقوم بترميم التحالفات التي تشققت بفعل سياسات ترامب السالفة. ولذلك انهمك خلال فترة الأيام الأولى من وجوده في البيت الأبيض بإجراء مهاتفات مع قادة الديمقراطيات الغربية، لإشاعة الاطمئنان بينهم أن أميركا ستعود ليس فقط للمشاركة الفاعلة في تحالفاتها التقليدية، وإنما ستعمل على تقوية هذه التحالفات، والاعتماد عليها في رسم السياسات المشتركة على الصعيد الدولي. لقد كان في تركيز بايدن على عودة الدبلوماسية للسياسة الخارجية الأميركية رسالة تطمينية مهمة للحلفاء، بأن التشاور والتحاور، وليس الإملاءات، سيكون الأساس المتّبع لرسم السياسات المشتركة مع الحلفاء، على صعيديْ العلاقات الثنائية والدولية العامة.

أما بالنسبة لخصوم أميركا التقليديين حاليا، المنافسين لها على الصعيد الدولي، وتحديداً روسيا والصين، فقد كان الرئيس الأميركي في غاية الوضوح عن الكيفية التي سيتمّ التعامل معهما بها. ويُستشفّ من خطابه أن هذا التعامل سيتمّ بموجب المحددات الواقعية في تدبير الشؤون الدولية، وبما يُحقق المصالح الأميركية. وبالتالي، سيكون التعامل مع الخصوم المنافسين وفق مبدأ يُمكن إطلاق تعبير «التعاون المواجِه» عليه. وفق هذا المبدأ ستكون أميركا مستعدة وراغبة في التعاون مع منافسيها بما يحقق الاستقرار الدولي، ولا يُجحف بالمصالح الأميركية. ولكن هذا الاستعداد لا يعني التغاضي عمّا يقوم به المنافسون، ويتعارض مع المنطلقات القيمية التي تنطلق منه السياسة الخارجية الأميركية. لذلك، ستواجه إدارة بايدن، وبحزم، ما يقوم به المنافسون ويتعارض مع مصالحها من جهة، ومع القيم الارتكازية لسياستها الخارجية، من جهة أخرى. وبذلك لن تكون روسيا معفيّة تماما، والصين مستهدفة تماماً، كما كان عليه الحال خلال فترة ترامب، بل سيتمّ اتّباع سياسة انتقائية ومختلطة، تقوم على تحديد سياقات التعاون والتنافس ضمن ضوابط ومعايير السياسة الواقعية. في هذا السياق يمكن ملاحظة طلب الرئيس الأميركي من الرئيس الروسي تمديد العمل باتفاقية الحد من انتشار الأسلحة النووية، وتوجيه ذات الرئيس انتقادات لاذعة لروسيا بخصوص تدخلها في مسار الانتخابات الأميركية، والهجمات السيبرانية التي توجهها ضد مؤسسات ومواقع أميركية، وانتهاكها لحقوق المعارضة الروسية، ممثلة بشخص أليكسي نافالني.

مع أن فريق الإدارة الجديدة كان خلال فترة الحملة الانتخابية والأيام الأولى لاستلام مقاليد السلطة، أرسل رسائل حول السياسات التعديلية فيما يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط، إلا أن خطاب بايدن جاء خاليا من التطرق لهذه السياسات. فعدا عن إعلانه عن ضرورة إنهاء الحرب في اليمن، لم يأت الخطاب على ذكرٍ صريح لموضوعيْن مهميْن، هما كيفية معالجة الملف النووي الإيراني، وقضية التسوية السياسية الشرق أوسطية، وبالتحديد إيجاد حلّ للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي. قد لا يكون في هذا التحاشي إهمالاً لهذيْن الملفيْن، مع أن إدارة بايدن تواجه ملفات ذات أولوية عليهما، وإنما تفضيلا لتركهما لمتابعة دبلوماسية هادئة قد تكون قد بدأت فعلياً.

لا يمكن الإحاطة كاملاً بمحددات السياسة الخارجية الأميركية في عهد بايدن الذي بدأ للتوّ، دون إيلاء اهتمام كبير لما يحدث على صعيد الساحة الأميركية الداخلية. صحيح أن الرئيس الجديد يريد تغيير مسار السياسة الخارجية لبلاده، ولكنه لن يُحقق النجاح الذي يرغبه في هذا المجال إلا بالتصدي الناجح لما تواجهه بلاده من أزمات داخلية عميقة. فالصدع الداخلي، السياسي – الاجتماعي- العرقي، الذي يجتاح أميركا حاليا، هو من العمق والأهمية التي تتطلب معالجة استشفائية تعيد اللُحمة للبلاد، وتمكّنها من مواجهة ناجحة لجائحة مستفحلة واقتصاد مأزوم. وطالما بقي الوضع الداخلي يعاني من هذه الأزمات، طالما بقيت ثقة الآخرين، وخصوصا الحلفاء التقليديين، بأميركا ضعيفة ومتشككة، واستمرّت قدرة المنافسين على التجرؤ عليها واردة. وسيمرّ وقت حتى تُثبت الإدارة الجديدة نجاعتها الداخلية، هذا إن تمكنّت، قبل أن تستطيع ترميم ثقة حلفائها بها، وردع منافسيها، وبالتالي استعادة مكانتها التي أطاح بها ترامب على الصعيد الدولي.