ستسعى إسرائيل إلى تصفية محكمة الجنايات الدولية

حجم الخط

بقلم: ميخائيل سفارد

 

 


بصفتها داعمة ثابتة لمبدأ محكمة الجنايات الدولية في لاهاي تتفاخر حكومة إسرائيل بالتعبير عن اعترافها بأهمية وضرورة وجود محكمة تقوم بتنفيذ تطبيق ناجع لسلطة القانون، وتمنع الحصانة عن «مجرمين دوليين». كإحدى المبادرات الى فكرة محكمة الجنايات الدولية، فان إسرائيل من خلال المدعين العامين والسياسيين الكبار فيها كانت نشيطة منذ الخمسينيات في جميع مراحل تشكيل هذه المحكمة. ممثلوها، وهم يحملون في قلوبهم وعقولهم الجماعية واحياناً الشخصية ذكريات الكارثة، وهي الجريمة الكبرى والأكثر اثارة للاشمئزاز، التي تم تنفيذها في التاريخ الانساني، ساهموا بحماس وبجدية في كل مراحل اعداد دستور المحكمة.
القلائل يعرفون ذلك، لكن في اليوم الأخير من العام 2000 وقعت إسرائيل على ميثاق روما الذي يعتبر دستور محكمة الجنايات الدولية. الاقتباس السابق تم أخذه من بيان إسرائيل أثناء التوقيع. مثل الولايات المتحدة، التي وقعت ايضا في اليوم ذاته (لذلك نحن قمنا بالتوقيع)، أعلنت إسرائيل فيما بعد بأنها لن تصادق على الدستور، لذلك لم تصبح عضواً في المحكمة. وقد استغرق الأمر خمسين سنة الى أن نجح المجتمع الدولي في تشكيل هيئة قضائية ثابتة ودولية، ستقوم بالحكم على اشخاص متهمين بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية وجرائم عدائية، وارتكاب أم الجرائم، ابادة شعب. منذ العام 1948 عند طرح الفكرة لأول مرة في قرار الجمعية العمومية للامم المتحدة وحتى العام 1998، عندما تم طرح ميثاق روما للتوقيع كانت إسرائيل تطمح في الوقوف على رأس الدافعين لها والمؤيدين لتشكيلها. في روح ممثلي اكبر الضحايا فان ممثلي إسرائيل تفاخروا في النقاشات بتمثيل الضمير والأخلاق، حيث فقط المتضررون من التمييز والاضطهاد والمذابح والتدمير مثلنا يمكنهم ويحق لهم تمثيلهما.
هكذا كان الامر، لكنه لم يستمر. في السنوات الأخيرة تجاوزت إسرائيل الخطوط، وتسلحت بشكل جيد قبيل حرب غير تقليدية ضد جسم أيدت تشكيله في السابق. في الاسابيع والاشهر القريبة القادمة تنوي الحكومة إخراج خطتها الى حيز التنفيذ، الامر العسكري نحو هدف طموح: تصفية محكمة الجنايات الدولية الاولى التي شكلتها الانسانية.
من أجل معرفة كم هو حقيقي وكبير هذا الخطر الذي تتعرض له المحكمة، يجب معرفة الى أي زاوية أدخلها الملف الفلسطيني. بدأت المحكمة نشاطها في 2002، حيث يوجد فيها اكثر من 120 دولة عضوا، في معظمها من العالم النامي (ما تمت تسميته في السابق العالم الثالث). ولأن ثلاث دول عظمى هي الولايات المتحدة والصين وروسيا غير عضو فيها، بل معادية لها، فان القوة السياسية والتمويلية جاءت من دول غرب اوروبا، التي جميعها اعضاء فيها وتعتبر تشكيلها تجسيداً لأحد الدروس المهمة للحرب العالمية الثانية: ترسيخ المحظورات الأكثر أساسية التي تبنتها البشرية كعبرة من تاريخ الحروب، وبالاساس من فظائع الحرب العالمية الثانية وضمان أن من ارتكبوا الجرائم لن يفلتوا من القانون. منذ تشكيلها قدمت في المحكمة لوائح اتهام ضد تسع دول، جميعها دول افريقية. مكتب المدعية العامة الاولى أجرى تحقيقات بشأن 13 نزاعا، 10 منها في افريقيا و3 في افغانستان وجورجيا وميانمار. يفسر هذا الاحصاء الانتقاد الشديد جداً الذي وجه في السنوات الأخيرة للمحكمة: رغم أنها محكمة دولية يمكنها أن تحقق مع وتحاكم مجرمين في كل العالم، إلا أنها فعلياً تحولت الى محكمة لجرائم الأفارقة، وأنها تسري على الضعفاء سياسياً، وهناك من يتشددون ويقولون بأنه نظراً لأن دولاً غربية ايضا تنفذ جرائم، لكن لا تتم محاكمتها في المحكمة، فإن الأمر يتعلق بذراع كولونيالية امبريالية اخرى للغرب. مرة اخرى الابيض يعلم البني والاسود.
أوجد هذا الانتقاد خطراً حقيقياً على المحكمة. دول كثيرة في افريقيا هددت بالغاء التوقيع. ودولة جنوب افريقيا، الدولة التي لها تاريخ يضعها كرمز اخلاقي، قررت الانسحاب من المحكمة، وهو قرار تم تجميده في هذه الاثناء، لكن عضويتها فيها غير مستقرة على الاطلاق.
بناء على ذلك، فإن طلب المدعية العامة الاولى من قضاة المحكمة للتقرير بأنه يوجد لها صلاحية لمناقشة الاشتباه بارتكاب جرائم تم تنفيذها في اطار النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني، وضع المحكمة امام معضلة شديدة. من جهة، رفض الطلب سيؤكد الشبهة، وسيزيد الانتقاد في أن المحكمة تخشى مواجهة دولة غربية، وأنها تفضل التركيز على المجرمين من دول ضعيفة سياسياً وعسكرياً واقتصادياً. والجمهور الإسرائيلي يصعب عليه سماع ذلك، لكن إسرائيل معروفة في العالم كمنفذة لجرائم متتابعة: بناء المستوطنات، الهجمات عديمة التوازن على قطاع غزة كل بضع سنوات، قُتل فيها آلاف المدنيين، ونظام الابرتهايد الواضح الذي أوجدته. من جهة، الهرب من التحقيق مع الإسرائيليين يمكن أن يقود الى موجة انسحابات من المحكمة، موجة تعرض اساس وجودها. ومن جهة اخرى، البدء في التحقيق مع الإسرائيليين سيقود المحكمة ايضا بشكل مباشر الى شفا الهاوية. إسرائيل من الدول القوية جداً سياسياً في العالم، وهي لا تخجل من شن حرب على القانون الدولي ولا تأخذ أسرى.
من الواضح أنه في القريب ستستخدم إسرائيل ضغطاً غير مسبوق على دول في غرب اوروبا من اجل تهديدهم بالانسحاب. هل دولة مثل ألمانيا، مع كل الحساسية التاريخية، ستصمت امام هذا الضغط؟ هل سياسياً هي تستطيع تسليم إسرائيليين – يهود ستصدر ضدهم أوامر اعتقال؟ لا توجد امكانية لتكون عضواً في المحكمة ولا تنفذ الاوامر التي يصدرها القضاة فيها. إن انسحاب دول غربية من المحكمة سيؤدي ايضا الى نهايتها.
تصعب رؤية كيف سيتم حل هذه المعضلة. والمؤكد هو أنه الآن وفي المستقبل القريب يوجد للفلسطينيين، للمرة الاولى في تاريخهم، ورقة تخيف جداً إسرائيل. على سبيل المثال الخان الأحمر، اذا كانت إسرائيل تريد أن تساعدها كل من ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وغيرها من الدول، فان الحد الادنى الذي ستطلبه منها، على الاقل في هذه الاثناء، هو عدم تنفيذ المزيد من جرائم الحرب. أحياناً، فقط أحياناً، القضاء هو حقا أداة الضعفاء. لحكومة إسرائيل، التي في هذه الاثناء استخدمت غرف حربها في مكتب رئيس الحكومة وفي وزارة الخارجية وبالتأكيد في «الموساد»، يجدر القول، من اقتباس مقولة منسوبة للمحامي المتوفى، امنون غولدنبرغ، بأنه ردا على سؤال زبون ما الذي سيقوله في شهادته أجاب بأن الحقيقة تكون احياناً هي الخيار. وهكذا، أحياناً عدم ارتكاب جرائم حرب هو أيضاً خيار.

 عن «هآرتس»