تأملات عام على "الكورونا"

ريما كتانة نزال.jpg
حجم الخط

بقلم: ريما كتانة نزال

بعد عام على الحياة مع «الكورونا»، سأقف أمام سنة في العيش مع «الكورونا». حالة تشبه الحرب أو تكاد، مستمرة معنا وأمامنا وخلفنا. سأرى أني إجمالاً لم ألتزم كثيراً بتعليماتها الجافة: تفلُّت متقطع من صرامة الحجْر المنزلي، والتزام متواصل بإجراءات الحماية والوقاية.
وضاعفت من قهر ذاتي وإحكام السيطرة عليّ، بمساعدة ديناميات القهر والقمع المعلبة في التعليمات والإجراءات، كُسِرت شوكة أقدامي واحتلت «الكورونا» وعيي. فالمعادلة باختصار أن أكون أو لا أكون، نعم للموت العادي الهادئ، ولا للموت الصامت.
وأَلِفْتُ مجالسة أشباح البيت وأرواحه، وتعلمت أن أجلس ساعات أمام النوافذ متأملة في الشوارع الخالية من المارة... يعز عليّ مجافاة الشارع الذي لطالما اجتذبني لأموج معه، للدرجة التي جعلت أمي تُطلق عليّ مبكراً لقب «بنت الشوارع»؛ مقارنة بأخواتي الهادئات والملتزمات بالتعليمات والنظم. كنت أقول لها: الشارع يدعوني، ولا أستطيع مقاومته.
عام مضى، هربت بعض الشيء من الوباء وليس من الموت، فالأول أخشاه أكثر من الثاني. فأنا أمقت ما أراه على شاشة التلفاز، بدءاً من برود مشهدية «ووهان» وجمودها على ممرات موحشة وعربات «روبوتية» توزع الكبسولات وبعض الأمل، ولا تنتهي ببث رقمي لرعشات اللحظات الأخيرة من العواصم التي أطفأت «الكورونا» بهاءها.
كنت أنظر إلى «ووهان» دون أن أدري أني أشاهد حالنا مع فروق تقاس بالزمن، وفروق حداثية وحضارية ومقدرات وموارد علمية ومالية وأنظمة صحية وخدمات متدنية الجودة. وفجأة بدأ المشهد يتمدد، فالوباء له مخططات كونية تبين أن جميع بني البشر متساوون نظرياً في الضعف لدى السماء دون وعد عملي بحلول العدالة.
والنقاشات لا تتوقف حول البديهيات، حول القناعة بوجود الوباء ومن ثم حول الطعوم، سأرى وألمس، بغض النظر عن فوارق حضارية، أن بعض ردود الفعل تتشابه وتتكامل، رابط خفي بين المصدقين وغير المصدقين، بين القناعة بالرواية العلمية وبين من يضعها في إطار مؤامرة دولية والحروب الساخنة والباردة. وبين جاذبية الخرافة والهروب نحو الغيبيات المريحة للنوم على ريش من عدم الاكتراث.
وتأكلت في تسجيل محرك البحث «غوغل» أسئلة جديدة مستنسخة من قديمة، أسئلة لا تجد إجاباتها، والسؤال المفضل عن «الكورونا» وعلاقتها العضوية بعلامات فارقة عن اقتراب يوم القيامة، رغم تكرارها وملل خطابها قد تُسْمِن لكنها لا تُغني من جوع، وتعطش لفعل شيء ما، أي شيء له تأثير «الكورونا» التي تم حسم أنها ستصنع تغييراً ما، يسهم في التعلم من الدروس والعبر.
وسريعاً ما تعلمنا «الزووم» واشتقاقاته التقنية كبدائل الاجتماعات الحضورية، وتنمطنا مع وسائل ومصطلحات جديدة، التعليم عن بعد، الاجتماع الوجاهي والتقني. وبدأنا نتعرف على انعكاسات الوباء على هبوط القيم والأخلاق في الزمن الكوروني.
الجوائح واحدة، «الكورونا» والاحتلال والرجعية.. لقد تأخر الوباء في وصوله بعض الشيء بسبب جوائح الاحتلال، المعابر الضيقة والصلة بالعالم وحرية الحركة، فلا مطار لدينا ولا مرافئ ولا حدود وطنية، الاحتلال يطبق على أنفاسنا ويقضم الجغرافيا من الجهات الأربعة. رغم ذلك، ليس من مفر من الوباء، والقضية ذات صلة بالاحتلال أولاً، والعدالة الكونية ثانياً، والكرامة المحلية ثالثاً.
وفي تداعيات وحدة الشعوب في عصر «الكورونا»، ستخرج فلسطين عن النسق العام لتظهر خصوصيتها كما تفعل دائماً. فالألم الذي وحّد العالم والإنسانية لم يستطع وضع فلسطين تحت ذات المفردة. فالجائحة رغم أنها ضربت العالم سواسية إلا أنها لمْ تضْر بهم بذات المستوى في الوجع، لأن الجلاد في فلسطين يحمل أشواك الاضطهاد المُركَّب والظلم الطويل والاستغلال والعنصرية والتمييز العرقي والإفقار.
وآخر التأملات، انفلتت «الكورونا» مع الاحتلال للتأكيد على أن نهاية الإنسانية في فلسطين قد اقتربت، فبات الشعب ينتظر طريقة الموت وساعته.. وينتظر التغيير المنتظر في موازين القوى وانعكاسات إيقاعها على الحياة الفلسطينية.. لكن ما نراه انفلات الهيكل العظمي نحو اختيار ضحاياه بعشوائية كاملة.