واقعي، ومؤثر، ومحافظ..!!

حسن خضر.jpg
حجم الخط

بقلم: حسن خضر

يشبه التحليل، في مختلف علوم الإنسان، بناء سجّادة أو تفكيكها. فأنت مضطر، في الحالتين، للتعامل مع خيوط يشكّل اجتماعها صورة المُنتج النهائي. ومضطر، أيضاً، للاعتراف بحقيقة أن الخيوط لا تجتمع بمفردها بل ينجم اجتماعها عن أصابع الصانع، وما يتجلى في المنتج النهائي من براعة أو رداءة يدل عليه. ومع ذلك، لا ينبغي الاستسلام لغواية هذا المجاز بلا تحفّظات، فالحياة أكثر تعقيداً من صورها الساكنة، وما يجتمع لتحقيق صورة متوقّعة لمنتج نهائي قد يكتسب قوّة دفع ذاتية، ويتخذ مسارات في صورة منتج نهائي، لم تخطر على بال الصانع.
أعتقد أن هذا التمهيد ضروري في التعامل مع الأسئلة التي طرحها صعود ظاهرة اسمها «القائمة الموّحدة» في الحقل السياسي الإسرائيلي، الذي يمتاز بالتعددية والتشظي، وينقسم بدوره إلى حقول فرعية. ومع هذا كله في الذهن، يبقى أن الحقل المذكور مُغلق في وجه الفلسطينيين من مواطني الدولة الإسرائيلية، كجماعة قومية، وإلى حد يبرر الكلام عن حقل منفصل حكمت عليه الفجوة الهائلة في موازين القوى، بالبقاء على، وفي، الهامش، وأخضعته لكل السيناريوهات المحتملة للهندسة الاجتماعية والسياسية، وفي القلب منها الحيلولة دون تبلور هوية وطنية مُوَّحدة ومُوّحِدة.
لذا، يصعب التفكير في أمر الظاهرة المعنية بمعزل عن عملية لم تتوقف لحظة واحدة، وتتجلى في ما لا يحصى من التفاصيل الصغيرة والكبيرة، منذ سبعين عاماً، عنوانها الهندسة الاجتماعية والسياسية، وما قد تنطوي عليه من سيناريوهات محتملة. ومن الجدير ذكره أن العملية المذكورة لم تكن قصة نجاح باهرة، بلا خيبات وانتكاسات على مدار هذه الأعوام.
فالصحيح، أن الهوية الوطنية لهذا الجزء من الفلسطينيين لم تغب لحظة واحدة، وأن خطها البياني في صعود رغم عثرات كثيرة، وما تعاني منه رغم الخصوصيات، وتباين الظروف، يعاني منه الشعب في كل مكان آخر. وفي سياق كهذا، تتجلى ظاهرة «القائمة الموّحدة»، بالخصوصيات والملابسات والتفاصيل المعروفة، والتي لا يتسع المجال لذكرها، بوصفها عثرة إضافية. وهذا خيط أوّل.
وفي معرض التفكير في الخيط الثاني نحتاج، فعلاً، لقدر معيّن من التمهيد. تُعرّف العرب «الطعنة النجلاء» بالطعنة القاتلة. ولنفكّر، دائماً، أن ما يُصيب العقائد والأيديولوجيات السياسية من «طعنات نجلاوات» لا يحدث برماح أعدائها، مهما علت همتهم، ومضت شفرتهم، وبرعت حجتهم، بل عمّا يسدد أكثر ممثليها تشدداً وحماسة من طعنات قاتلة إلى قلبها، دون قصد طبعاً، وفي اعتقادهم أنهم يخدمونها.
فلنفكر في الكنيسة التي خسّرت مركزية ونفوذ قرون في أوروبا بعد الحروب الدينية. ولنفكر في البعث الذي أنشأ باسم القومية العربية نظامين كابوسيين، وفشل حتى في توحيد بلدين متجاورين يعتنقان الفكرة نفسها. ولنفكر في الوهابية والإخوانية وداعش التي سددت إلى قلب الإسلام السياسي أكثر من «طعنة نجلاء»، ولنفكر في «حزب الله» و»حماس» التي طعنت، إلى جانب الإسلام السياسي، فكرة الكفاح المسلّح، أيضاً. وإذا وسّعنا البيكار، قليلاً، فلنفكر فيما لحق بالماركسية من طعنات في دكتاتوريات الاتحاد السوفياتي، والكتلة الاشتراكية. وأخيراً، ما ألحق الكاريكاتور الترامبي من طعنات بفكرة أميركا. الأمثلة كثيرة، والمهم أن لا أحد أكثر كفاءة في تخريب الأفكار من أصحابها، إذا تطرّفوا.
على أي حال، يتمثل أوّل الخيط الذي يبدو للعيان في الانتماء الأيديولوجي لأصحاب القائمة المذكورة، فهم من الإسلام السياسي، أيضاً، الذي طفا على سطح موجة الأسلمة التي اجتاحت الفلسطينيين في السبعينيات، والعالم العربي، نتيجة أسباب محلية وإقليمية ودولية لا يتسع المجال، ولا نحتاج لذكرها، بل يكفي التفكير في حقيقة أن أيدي صنّاع السجادة تعددت، وتنوّعت، بقدر تعددية وتنوّع الأسباب، وأن المُنتج النهائي تعدد وتنوّع، أيضاً، وبعض الرهانات عليه أصابت، وبعضها خابت.
على أي حال، إذا كان في جينالوجيا أصحاب القائمة، أي تاريخهم السلالي، ما يُعيدهم إلى عنوان عريض اسمه «الإسلام السياسي»، ففي رصيدهم الانشقاق، على أسس مناطقية، وتشكيل جناح مستقل أصبح الوحيد، من ناحية عملية، بعد حظر الجناح الآخر بصفة رسمية. ومن غير المُستبعد أن تكون ميولهم «المعتدلة» قد عرّضتهم لانتقادات محتملة، وأحرجتهم من حين إلى آخر، وأضفت قدراً من التعقيد على علاقتهم بأقرانهم في فلسطين، والعالم العربي، والعالم، وما يشكّل بالمعنى العريض للكلمة نوعاً من «الكومنترن الإسلامي»، خاصة في زمن «الجهاديات» التي اجتاحت المنطقة في العقود الأخيرة.
بمعنى آخر، كما كانت الأحزاب الشيوعية، والحلقات اليسارية، وحركات التحرر...الخ، في زمن مضى، تسعى لنسج علاقات مع مثيلاتها، سواء بمبادرات ذاتية، أو توجيهات من مركز ما، فعلت جماعات الإسلام السياسي، في كل مكان، الأمر نفسه. وهذا النوع من العلاقات يشمل تبادل الخبرات، والمساعدات، وشن الحملات الإعلامية والسياسية المشتركة، وتنسيق الجهود الميدانية، أحياناً. والأكيد أن وضع هؤلاء كان معقّداً بعض الشيء في زمن «الجهاديات».
ومع ذلك، يبدو في زمن «سلام إبراهيم»، وانقلاب الوهابيين، والخليج عموماً، على الإخوان والدواعش في العقدين الأخيرين، أن ما كان مصدراً للإحراج في وقت مضى أصبح الآن ميزة إيجابية تماماً، مع تعديلات في الاسم والتسمية. فبعد اندلاع الثورة السورية، مثلاً، أصبح لما يزيد على تسعين بالمائة من الجماعات المناوئة للنظام في سورية تسميات إسلامية، وتقلّص هذا العدد إلى حد كبير الآن. على طريقة الأحزاب الشيوعية التي غيرّت أسماءها التقليدية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. وبهذا المعنى خاضت القائمة الانتخابات بإعلانات في الشوارع عنوانها «واقعي، ومؤثر، ومحافظ». وهذا ثاني الخيوط، الذي يحضر فيه الإقليمي والدولي بقدر حضور المحلي، وربما أكثر. فاصل ونواصل.