التحية لروحه والتحية لذكراه، هذا الرمز المؤسس والحاضر بقوة في الغياب رغم كل الذي جرى في السنوات الاحدى عشرة الذي مرت على رحيله من انقسام هو صناعة اسرائيلية مئة بالمئة، بل ان دهاة اسرائيل والحركة الصهيونية وحلفاءهم بالاقليم لم يبدعوا في عداوتهم ضد الشعب الفلسطيني أبشع من هذا الانقسام الفاقد لكل غطاء وطني أو ديني أو سياسي أو اخلاقي، الا انه ما زال يفتك بنا حتى في ذكرى استشهاد زعيمنا الخالد ياسر عرفات، بحيث منع شعبنا في غزة من الاحتفال بما يليق بعظمة الحاضر في غيابه، تحت ذرائع ما أنزل الله بها من سلطان.
ياسر عرفات ومنذ أول وعيه بمأساة شعبه وحتى قبل ان يبلغ العشرين من عمره، استطاع ان يواصل هذا النوع الخارق من الحضور في زمن الغياب.
وكان الحضور هاجسه الأول وابداعه الأول، ما كان اسهل عليه لو وضع رأسه مع الرؤوس المنحنية المستسلمة للذبح بلا صراخ! وما كان أسهل عليه من تطبيق الوصايا المفروضة على شعبنا من أقرب اشقائه الى اعدى اعدائه "لا تتكلموا فنحن نتكلم بالنيابة عنكم، لا تخترقوا الحواجز ولا تتعدوا الخطوط الحمراء".
ياسر عرفات كانت موهبته الخارقة أنه كان استاذا في المرونة ولكنها المرونة التي تخترق كل المحظورات والممنوعات وكل الخطوط بكل الألوان، وكان يرى حتى وهو في مقتبل العمر ان شعبه الفلسطيني الذي ينتمي اليه، يمتلك هذه الخاصية الملهمة، ولولا ذلك لانتهى هذا الشعب يوم ان وقع "تحت اقدام الفيلة الكبيرة الثقيلة الساحقة" عام 1948 المؤرخ عندنا بعام النكبة.
وكان هاجس الحضور عند عرفات ان يكون لفلسطين عنوان ومرجعية، اذ كيف يمكن ان نكون شعبا بلا عنوان وبلا مرجعية وبلا هوية وبلا كيانية وطنية ؟
ومن رابطة طلاب فلسطين بالقاهرة الى منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة فان هذا الحضور الفلسطيني تحقق بأعلى ثمن لأن البديل كان هو الموت الكامل.
ومنذ الخطوة الاولى حتى اللحظة الأخيرة لم يكن عندنا لحظة واحدة هادئة واخرى عاصفة ولم يكن عندنا جبهة امامية وجبهة خلفية، لأن العدو الذي نقاتله ينازعنا على كل شيء، على الأرض والتاريخ والرواية والتطاريز الحريرية على ثياب نسائنا، وفي العلاقة مع هذا العدو في الحرب والسلم على حد سواء ليس بيننا خط وسط، ولذلك تاتي ذكرى ياسر عرفات هذه الأيام كما لو اننا في زمن البداية، وبما اننا حاضرون بدمنا وذكائنا وفي التداول اليومي، فهذه احدى وصايا ياسر عرفات الخالدة "خذوا من جبال الثلج قبسا شريطة الا تتجمدوا، وخذوا من جبال النار قبسا شريطة الا تحترقوا، وضعوا انفسكم في حالة تعاقد دائم مع المستقبل".
نتذكرك على طريقتنا بهبة الأقصى وأنت حاضر فينا رغم كل أقاويل الغياب.