في دراسة مطوّلة أصدرها مركز الأرض للأبحاث والدراسات بعنوان "الشباب الفلسطيني: المصير الوطني ومتطلبات التغيير"، يستخلص جميل هلال، الذي أشرف على إعداد الدراسة مع نخبة من الباحثين، أن الظروف الموضوعية لنشوء حركة وطنية جديدة باتت ناضجة بفعل فشل الحركات الوطنية الراهنة، سواء في متابعة إنجاز الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، أو كونها لم تعد قادرة بفعل هذا الفشل على تمثيل الشعب الفلسطيني بقطاعاته الاجتماعية المختلفة، سيما قطاع الشباب. إلا أن الظروف الذاتية حسب الدراسة لم تكن في حينه ناضجة بعد لمثل هذه الولادة. كان ذلك في محاولة للإجابة على السؤال حول الأسباب التي تقف وراء ما سُمي في حينه بانتفاضة السكاكين، وفيما إذا كانت تشكل إرهاصات أولية لهذه الولادة وما تحمله من تغيير عبر بوابة الكفاح الوطني.
لقد بات واضحًا، وبعد مرور خمس سنوات على نشر تلك الدراسة، مدى تدهور مكانة الحركة الوطنية ودورها في الدفاع عن الحقوق الوطنية وعن مصالح المواطنين على حد سواء. وكذلك مدى اتساع الفجوة بين الناس ومختلف مكونات النظام السياسي للسلطة والمعارضة، والتي من وجهة نظر الشباب في تلك الدراسة المشار إليها، لم يحظيا على رضا الشباب الذين اعتبروا كلاهما لا يمثل تطلعاتهم الوطنية والمعيشية.
إثر الإعلان عن مرسوم الانتخابات وفتح أبواب التسجيل بلغ عدد المسجلين ما يفوق ال93% ممن لهم حق الاقتراع، من بينهم أكثر من مليون شاب لم يسبق لهم المشاركة في الانتخابات العامة من قبل. هذه الأرقام تشير إلى أنه من الممكن للانتخابات أن تؤدي إلى انقلابًا شعبيًا غير مسبوق، ليس فقط إزاء حزب السلطة الذي تعمقت تشققاته، بل وأيضًا بالنسبة لحركة حماس التي ربما ستحصد أعلى الأصوات ولكنها بفارق شاسع ستكون أدنى مما كانت عليه عام 2006. وهذه حقيقة مدرَكة من قِبل الطرفين المهيمنين على المشهد الانقسامي وهي التي تفسر رغبتهما السابقة بخوض الانتخابات بقائمة مشتركة.
من الواضح أن خيار الذهاب للانتخابات لم يكن ناضجًا بدرجة كافية لدى حزبيّ السلطة في رام الله وغزة، بقدر ما كان محاولة لتجديد شرعية كل منهما، حتى لو كان ذلك في سياق الاعتراف المتبادل بالأمر الواقع الانقسامي، ودون الاكتراث لضرورة تغيير السياسات التي اوصلت القضية الفلسطينية لهذا الوهن والتهميش، ولا الالتفات إلى احتياج الناس للتغيير فيما يخص حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية والحريات العامة وغيرها من الحقوق التي تضمن لهم العيش الكريم والقدرة على الصمود في مواجهة مخاطر تصفية القضية الوطنية.
الآن، وبعد أن اتضحت إلى حدٍ ما طبيعة النتائج التي قد تُفضي إليها الانتخابات، بات من الواضح أن قرارًا بالتأجيل قد اتُّخذ، وبصورة منفردة تُكرس حالة التفرد التي شكلت السبب الأبرز فيما آلت إليه أوضاعنا. وأن كل ما يجري هو محاولة أطراف القوى المهيمنة للبحث عن سبل الإخراج، والتي تتمادى في نرجسيتها لدرجة إطلاق مهلة للمجتمع الدولي لإلزام اسرائيل بالموافقة على إجراء الانتخابات في القدس. وكأن الانتخابات هي مجرد حاجة دولية وخاصةً أوروبية، ونحن نبحث عن ذريعة اسرائيلية لتجاوزها.
مرةً أخرى، بدون معالجة الأسباب التي أدت لهذا التآكل في دور ومكانة التيار المركزي للسلطة ومنظمة التحرير، فإن تأجيل الانتخابات لن يكون مجرد قفزة في الهواء، بل حتمًا سيكون الضربة قبل الأخيرة للانهيار الشامل في مكانة السلطة ونظامها السياسي. الأمر الذي سيفتح أبواب جهنم أمام جميع سيناريوهات تفتيت القضية الفلسطينية، ذلك بفعل إصرار الجهات المتنفذّة من القوى المهيمنة على المشهد للإبقاء على سدّة الحكم، وإصرارهم في نفس الوقت على الرفض المطلق لعمل أي مراجعة للأسباب التي أفضت للواقع الراهن.
في السنوات الأخيرة كان واضحًا أن أزمة الحركة الوطنية تتعمق يومًا بعد يوم، وأنها أصبحت بفعل سيطرتها على موارد الشعب مجرد حائط يعيق بلورة وولادة بنية جديدة قادرة على التعبير عن تطلعات وحقوق الشعب، ومصالح قطاعاته المختلفة.
يبدو أن الظرف الذاتي للتغيير بات ناضجًا، وإنْ لم يتم بصورة سلسة عبر الانتخابات والإقرار بنتائجها، وهذا كما يبدو غير واردٍ حتى الآن، إذًا يبقى خياران لذلك؛ الأول عبر الاتفاق على حكومة إنقاذ وطني انتقالية تعالج جميع الملفات وتُمهد لتغييرٍ هادئ وعقلاني بمشاركة الجميع دون استثناء أو إقصاء. وتُكرَّس من خلالها الشراكة الوطنية في تحمل المسؤولية بعيدًا عن قيود أوسلو وإفرازاتها، بما فيها هيمنة القوى التي ترتبط مصالحهم بالاستمرار عليه. أما الخيار الثاني، في حال عدم حدوث أيّ من الخيارين السابقين، فلا يبقى أمام الناس سوى الخروج الشعبي على هذا الواقع. فاحتمال إبقاء الوضع على ما هو عليه من فشل وقصور بات مستحيلًا وعواقبه مكلفة جدًا.