عندما أسّس المشروع الصهيوني لنفسه مقولة «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»، كان يعي أن تدمير مقوّمات الشعب الفلسطيني هو الشرط الأول لتقدم هذا المشروع.
لم يكن المشروع الصهيوني حراً وطليق اليدين بالكامل، ولم يتمكن إلاّ جزئياً من هذا التدمير.
المسار الذي اختطه المشروع الصهيوني كان مساراً متكاملاً، من حيث بناء أسس مادية لهذا المشروع منذ البدايات الأولى «للهجرة» اليهودية إلى وطننا فلسطين، في مجالات العمل والبناء الاستيطاني والصحة والاقتصاد ثم انتقل عند درجة معينة من احتدام الصراع إلى بنية عسكرية منظمة في فصائل عسكرية مجهّزة لصراع طويل وحروب ومعارك فاصلة، بالتنسيق التكاملي التام مع الدعم البريطاني الكامل والشامل. الاقتلاع كان أحد عناوين الخطة، والإرعاب لإجبار أبناء شعبنا على الرحيل، ثم التطهير العرقي المدروس بأدق تفاصيل هذا التطهير.
لكن هذا المشروع لأسباب سياسية «واقعية» اصطدم بواقع لم يسمح له بالنجاح إلاّ جزئياً، إذ توقف هذا الاقتلاع والتطهير السافر المنظم والمدعوم بإرهاب المنظمات الصهيونية عند خطوط الهدنة، ولم يتمكن حينها من إحكام سيطرته على كامل المدينة المقدسة، كما لم يتمكن من احتلال الضفة والقطاع، وأُجبر على «التعايش» مع وجود أكثر من مئة وخمسين ألف فلسطيني ظلوا خلف الخط الأخضر.
وكان هذا «الإخفاق» هو الإخفاق الأول والحقيقي لأنه يتناقض بالكامل مع مقولة الأرض بلا شعب.
وكان قرار التقسيم، ثم قرار (194) تحديداً هو التعبير الأهم عن هذا الإخفاق التاريخي الكبير، بصرف النظر عن الكيفيات التي تعامل بها العالم العربي، وكذلك بعض القيادات الفلسطينية، بل الكيفيات التي تعامل بها العالم كله آنذاك.
انتقل المشروع الصهيوني في ضوء ذلك بالذات إلى تبديد الهوية الوطنية (الوعي الجمعي بالنكبة) أساساً، والشعور بالتهديد الوجودي الذي مثله تطور المشروع الصهيوني على الأرض على مدار أكثر من نصف قرن من الزحف المنظم إلى فلسطين. هنا تم إحكام السيطرة على من تبقى من أهلنا في الداخل بالحكم العسكري، وتم إلحاق الضفة بالأردن، وتم تحويل القطاع إلى «جيب» ملحق بالإدارة المصرية، بعد أن تمكنت إسرائيل من عزله وفصله بالكامل عن الداخل وعن الضفة.
وعلى الرغم من إعادة احتلال كامل فلسطين في ضوء نتائج حرب حزيران إلا ان الإخفاق التاريخي الثاني للمشروع الصهيوني اصبح على جدول الأعمال.
فقد أُعيدت ودفعةً واحدة عملية تواصل بين التجمعات للمرة الأولى منذ النكبة، ولم تمض غير شهور محدودة من حالة اليأس والإحباط، حتى بدأت «بشائر» هذا الإخفاق الصهيوني تهلّ تباعا.
عمليات فدائية، وصمود القيادة المصرية، وحالة من الرفض العربي للصلح والاستسلام وسقوط الجيش الإسرائيلي في موقعة الكرامة سقوطاً مدوياً لمجرد أن بضع مئات من الفدائيين صمموا أن يخوضوا معركة حياة أو موت، ومع دخول وحدات من الجيش العربي في المعركة بكل استبسال وشجاعة ردت للعرب كلهم كرامتهم التي أهينت في حرب حزيران.
بدلاً من تبديد الهوية الوطنية، ومن طمسها، وإلحاقها وفرض الوصاية عليها وبدلاً من عزل التجمعات التي كانت تعيش على الأرض الفلسطينية عن بعضها البعض عادت هذه الهوية للانبعاث الوطني الكبير، وما هي إلاّ عدة سنوات فقط حتى أصبحت المنظمة قيادة الشعب كله، وممثلاً شرعياً له، وتحولت إلى كيان وطني ومؤسسي جامع وشامل، وبدأت مسيرة فرض واقع سياسي جديد على أجندة الإقليم وعلى العالم بأسره عنوانه حقوق الشعب الفلسطيني، وتحولت الهوية الوطنية الفلسطينية إلى هوية تحررية، كفاحية وإلى أحد أهم رموز العدالة والحرية، والالتحام التام بالبشرية التقدمية.
وما بين العام 1967، والعام 1974 (أي مع بداية تعاطي قيادة منظمة التحرير) مع الحلول السياسية التي طرحت آنذاك، وخصوصاً في ضوء نتائج حرب أكتوبر، وما أفضت إليه من حراك سياسي نحو «حلول» سياسية على مستوى الإقليم كله في تلك الفترة التي امتدت بين تلك الأعوام كان هناك ما يكفي من التناغم أو الانسجام ما بين المشروع الوطني الذي حملته الوطنية الفلسطينية وما بين الهوية الوطنية التي كانت في حالة انبعاث متجددة ومتوجة إلى حد بعيد.
ويمكن القول هنا، إن برنامج الدولة الديمقراطية على كامل الأرض الفلسطينية آنذاك كان ـ بما مثله من حالة إجماع وطني ـ أقل تعارضاً أو تناقضاً مع الهوية الفلسطينية، ولم يكن فيه (أي برنامج الدولة الديمقراطية) ما يهدد أو يشكل خطراً من أي نوع كان على هذه الهوية.
الخلاصة الجوهرية الأولى هنا أن المشروع الصهيوني فشل في تبديد الهوية الوطنية في ضوء انبعاث وإعادة انبعاث المد الوطني، وفي ضوء تضحيات الشعب الفلسطيني واستبساله في الدفاع عنها، وفي ضوء نجاحه بإعادة تأسيس بنيانه الوطني من خلال المنظمة.
بعد دخول منظمة التحرير الفلسطينية المعترك الدبلوماسي والسياسي ووصولها إلى الاستعداد للقبول بدولة فلسطينية على جزء من الأرض الفلسطينية، دون «ضمان» نجاح هذا المشروع في الجمع ما بين حق إقامة الدولة وما بين حق العودة، ودون أن يكون مفهوم حق تقرير المصير شاملاً وحقيقياً ويغطي المضمون التحرري للقضية الوطنية من كل جوانبها، فقد بدأ بالفعل التناقض بين الهوية والبرنامج بالتفاعل السياسي النشط وبدا التعارض صارخاً في عقد اتفاقيات أوسلو.
خلال المرحلة الممتدة بين العام 1974 والعام 1993 ـ 1994، كان هناك من النقاش السياسي في الساحة الفلسطينية ما ينتمي إلى عالم الفكر السياسي الفعال حول جدوى البرنامج المرحلي، وفيما إذا كان هذا البرنامج بتعارضه أو تناقضه مع الهوية الوطنية قادراً على حل «التناقض» من خلال إقامة الدول الوطنية، ومن خلال مساومة تاريخية (حل الدولتين)، والذي تحول إلى دولتين لشعبين في واقع الحال، ومن خلال الاستعداد للاعتراف بإسرائيل مقابل هذه المساومة.
حتى ذلك الحين، لم يكن التناقض أو التعارض سافراً، وكان البرنامج المرحلي يتضمن بما ينطوي عليه من «غموض بناء»، وما يمكن ان يكون له من إمكانيات احتياطية كبيرة، وفي حالة ان استطاع الوضع الإقليمي والوضع الدولي، وفي حال ان جرت تحولات كافية في إسرائيل نفسها فإن تضافر كل هذه العوامل والشروط يحول دون ان يكون هذا التعارض او التناقض تهديداً مباشراً للهوية الوطنية او خطراً محدقاً بها.
على الرغم من كل هذه المتغيرات الكبيرة في علاقة وشروط التعارض والتناقض ما بين استحقاقات والتزامات الحلول السياسية وما بين تماسك وتكريس الهوية الوطنية، إلا ان الفكر السياسي الفلسطيني في واقعه الراهن يبدو قاصراً عن المساهمة الجادة في التصدي لهذه المعضلة الكبيرة.
وبين حل سياسي (حل الدولتين) يضمحل ويتلاشى وتتراجع فرصه الواقعية دون القدرة على مغادرته، وبين «حلول» وشعارات لا نتملك أي مقومات واقعية مقابله (حل الدولة الواحدة)، بل ولا نمتلك فلسفة او رؤى معللة ولا هي قادرة على التعبئة والتحشيد الوطني باعتبارها برنامجاً سياسياً وكفاحياً فعالاً بشروطه الوطنية «حالة الانقسام» وشروطه الإسرائيلية (الانزياح الكبير والمتزايد نحو اليمين والتطرف والفاشية) ولا حتى بشروطه الدولية (عدم استقرار النظام الدولي، وعدم رسوّه بعد على شروط توازن جديدة) ومن بين هذه وتلك فإن شعبنا سيدفع من اللحم الحيّ لهويته الوطنية ما لم يتمكن الفكر السياسي الفلسطيني من طرح البرنامج السياسي القادر على الفعل والتأثير إقليمياً ودولياً، وقبل كل ذلك وطنياً.
دون مثل هذه المقاربات الواعدة والتي تؤسس لشروط توافق تاريخي جديد بين متطلبات الكفاح الوطني التحرري وبين أولوية تماسك الهوية الوطنية ورسوّها فإن المشروع الصهيوني سيعوض عن إخفاقاته الاستراتيجية التي أشرنا إليها، وهو ما سيحتاج إلى محاولة للإسهام في المقال القادم.