ما زالت الانتخابات الفلسطينية تثير من الأسئلة أكثر مما تقدّم من أجوبة، ويقف المرء حيالها عاجزًا عن التمييز بين ما هو حق صرف وذاك الذي يختبئ في ثناياه الباطل. ولعل من أبرز الأسئلة تلك المتعلقة بالقدس، وموقعها في الانتخابات الفلسطينية المرتقبة، وذلك الشعار الذي أصبح بمنزلة لازمةٍ يردّدها كثيرون أنْ “لا انتخابات من دون القدس”، والذي يلتبس تفسيره؛ فبعضهم يرى فيه ذريعة جاهزة لتأجيل العملية الانتخابية، إذا ما تقرّر تأجيلها أو إلغاؤها، استجابة لرغبات عربية وضغوط إسرائيلية، أو مخاوف من نتائجها تعزّزت بعد تعدد قوائم حركة فتح. ويرى آخرون فيه دليلًا على مكانة القدس وأهميتها، وطريقًا لجعل الانتخابات ساحة للمواجهة، ومعركة ضد إجراءات العدو فيها، وبين هذا وذاك بون شاسع بامتداد المسافة بين الحق والباطل.
تطالعنا الأخبار أن السلطة الفلسطينية تقدمت بطلب إلى السلطات الإسرائيلية للموافقة على إجراء الانتخابات في القدس، وهي تنتظر ردّها عليه. وموافقة إسرائيل على الانتخابات لم يرد لها ذكر في اتفاق أوسلو (1993) الكارثي، أو في ملاحقه المتعلقة بهذه المسألة. ما ورد فيه أن التصويت في داخل القدس يتم من خلال مراكز البريد الإسرائيلية في المدينة، وفق طاقتها الاستيعابية التي لا تتجاوز بضعة آلاف، وباستخدام مغلفاتٍ لا توجد عليها أي إشارات أو رموز فلسطينية. أما التنسيق بين السلطة الفلسطينية والسلطات الإسرائيلية فهو ينحصر في تنظيم الدعاية الانتخابية للمرشّحين. وبهذا، لا يوجد أي مبرّر لتقديم طلب بالموافقة، ومنح سلطات الاحتلال الإسرائيلية حق القبول أو الاعتراض على شأنٍ ليس من اختصاصها، بل إن شركة البريد المملوكة للحكومة الإسرائيلية قد تمت خصخصتها، وإذا كان لا بد من تقديم طلبٍ لاستخدام مكاتب البريد في الأحياء العربية، فمن الأوْلى تقديمه إلى تلك الشركة الخاصة.
وعلى صعيد الواقع العملي، انتخب الفلسطينيون مرتين سابقًا؛ في انتخابات عام 1996، صوّت 5327 مقدسيًا فقط، من خلال خمسة مكاتب بريدية، ليرتفع العدد في انتخابات عام 2006 إلى 6300 مقدسي اقترعوا من خلال ستة مكاتب. أما أغلب المقدسيين فقد اقترعوا خارج حدود القدس. وهذا العام، وبحسب لجنة الانتخابات المركزية، فقد تم تجهيز 11 مركزًا انتخابيًا، في ما سُميت ضواحي القدس الخاضعة لسيطرة السلطة الفلسطينية، ليقترع فيها نحو 150 ألف فلسطيني. يتضح من ذلك أن أهل القدس لم يقترعوا في الانتخابات السابقة داخل القدس، باستثناء الأعداد المحدودة التي صوّتت من خلال مكاتب البريد. كما أن سلطات الاحتلال أعاقت الدعاية الانتخابية، ومنعت تعليق اليافطات والملصقات في داخل المدينة، وهو ما تفعله هذه المرة أيضًا، حيث تفضّ اللقاءات والاجتماعات، وتعتقل المرشحين، أو توقفهم عدة أيام، ومن ثم تفرج عنهم لتعيد توقيفهم. وجل ما يستطيع الاحتلال التحكّم به هو المراكز البريدية المحدودة داخل القدس.
ثمّة ذريعتان قد تُستخدمان لإلغاء الانتخابات أو تأجيلها. ومن المهم الملاحظة هنا أننا نتحدث عن المرحلة الأولى منها، انتخابات المجلس التشريعي. أما انتخابات الرئاسة واستكمال المجلس الوطني، فلهما أسئلتهما التي ستأتي بعد اجتياز المرحلة الأولى، وفي ضوء نتائجها. جائحة كورونا وانتشارها ذريعة جاهزة، مثل ذريعة القدس، وكلتاهما ليستا سوى ذريعتين تُستخدمان لأهدافٍ لا علاقة لها بالقدس ومكانتها، أو الجائحة وانتشارها.
إذا تأملنا الرسالة التي قيل إن قيادات من الأسرى الفلسطينيين أرسلتها إلى رئيس الهيئة العامة للشؤون المدنية الفلسطينية، حسين الشيخ، الذي وعدها بنقلها إلى الرئيس محمود عباس، وبحثها في اجتماع اللجنة المركزية لحركة فتح، وطالبت فيها بتأجيل الانتخابات إلى حين تمكّن “فتح” من استعادة وحدتها، وتشكيل قائمة انتخابية واحدة، بعد التراجع عن فصل ناصر القدوة، وإتاحة المجال لمروان البرغوثي، بعد تعديل القانون بمرسوم رئاسي، ليترشّح نائبًا للرئيس محمود عباس. واقترحت الرسالة أن تؤجل الانتخابات، انطلاقًا من بوابة القدس، وهي الذريعة التي ستختفي، وفق منطوق الرسالة المزعومة، إذا استعادت حركة فتح وحدتها الانتخابية، وسيتم إجراء الانتخابات في القدس كما تمت في المرّات السابقة، أي في مناطق السلطة الفلسطينية. وجدير بالذكر أن عددًا ممن أُدرجت أسماؤهم في هذه الرسالة قد نفى علمه بها، كما نفت قيادات الحركة الأسيرة في السجون معرفتها بالرسالة، وعلى الأرجح أن الرسالة جزء من التجاذبات داخل الحركة، ووسيلة للتراجع عن إجراء الانتخابات بمبرّر الاستجابة لمطالب الأسرى، ومزج رمزيتهم برمزية بيت المقدس، ولها علاقة بمحاولة ترتيب أوضاع فصيل بعينه، يعتقد بعض أنصاره أنه غير جاهز لخوض الانتخابات في المرحلة الحالية. أما موقّعوها فقد اعتقدوا أنهم يُرشدون قيادتهم إلى المبرّر الذي يمكن أن يقود إلى تأجيل الانتخابات، أو طلب منهم ذلك، لكن الطابق المستور أصبح مكشوفًا.
بيان آخر صدر عمّا سُميت فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، ولم تشارك فيه الفصائل الرئيسة، دعا أيضًا إلى تأجيل الانتخابات، بذريعة عدم موافقة العدو على فتح مكاتب البريد في القدس، واعتبرت الانتخابات من دون القدس تنازلًا عنها، على الرغم من تصريح رئيس لجنة الانتخابات، حنا ناصر، بأن اللجنة اتخذت جميع الإجراءات الكفيلة بأن يشارك المقدسيون في الانتخابات في ضواحي القدس الخاضعة لسيطرة السلطة الفلسطينية، كما تم في المرّات السابقة. وهنا لنا ملاحظتان: الأولى على التسمية التي أطلقها هؤلاء على أنفسهم (فصائل منظمة التحرير)، والتي لا تنسجم مع الاتجاه إلى إعادة بناء المنظمة لتصبح للكل الفلسطيني. والثانية أن جل هؤلاء لم يتمكّنوا من تأليف قوائم انتخابية خاصة بفصائلهم، واحتجّوا على حركة فتح، لأنها كانت قد وعدتهم بضمهم إلى قائمتها، ثم عدلت عن ذلك، بعد أن تراجعت فُرص تشكيل قائمة موحدة مع حركة حماس، وبذلك أصبح هذا الديكور الوهمي لا لزوم له، ومستنفدًا أغراضه. ويبقى السؤال ما إذا كان هذا يعني تأجيل الانتخابات، ما بقي وضع القدس على حاله، وهو وضعُها منذ وجود السلطة الوطنية التي وافقت، منذ البداية، على أن يقترع المقدسيون خارج القدس. والمثير للعجب أن بعض الذين يطلقون التصريحات شمالا ويمينا يعتقد أن فتح هذه المكاتب سيعدّ بمثابة تراجع إسرائيل عن كل إجراءاتها التي قامت بها في القدس!
لم يرَ كاتب هذه المقالة يومًا الانتخابات أولوية لدى الشعب الفلسطيني في هذه المرحلة، وكتب أن ثمّة أولويات أخرى أكثر أهمية، مثل الاتفاق على المشروع الوطني والمقاومة الشعبية، وإنهاء الانقسام على أساس برنامج سياسي متفق عليه، وإعادة بناء منظمة التحرير. ويرى أن نتيجة هذه الانتخابات، في أحسن أحوالها، ستكون إدارة الانقسام وليس القضاء عليه، وتغييرًا في نية النظام السياسي، وليس في البرنامج السياسي، لكنه (الكاتب) يرفض محاولات الالتفاف على ما اتُفق عليه، واستخدام القدس أو الأسرى ذرائع وحججًا واهية لإلغاء الانتخابات، وقلب الحقائق وتحويرها لمصالح فئوية ستعزز الانقسام، وتعمّق أزمة النظام السياسي الفلسطيني.
الموافقة على إلغاء الانتخابات لأن العدو لم يوافق عليها، أو عرقلتها في القدس أو سواها من المناطق، هي انصياع لإرادة العدو، ولا تمثّل أي بطولة. البطولة هي في التصدّي لإجراءاته، وتمكين المقدسيين من الانتخاب بسبل ووسائل شتى، وهو أمرٌ متاح. وكذلك في رفض قيوده على التجمّعات واللقاءات، واستغلالها للتعبئة والتحريض، وتكثيف حملاتها على الرغم من قمع الاحتلال. أما يوم الانتخابات فيمكن وضع صناديق اقتراع، حتى وإنْ كانت رمزية، في المدارس والمساجد بما فيها المسجد الأقصى والكنائس، ومقرّات الأمم المتحدة، وأمام القنصليات الأجنبية، بحيث ينتخب المقدسي في مركز الاقتراع الخاص به، بحسب لجنة الانتخابات حفاظا على صوته في العملية الانتخابية الرسمية، ويضع في صناديق القدس الرمزية المنتشرة في كل مكان داخل القدس ورقةً مكتوبًا عليها “القدس عربية، وستبقى عربية”. في تحدٍّ واضحٍ لإجراءات العدو، يحافظ على عروبة المكان وقدسيته، ويتيح للمقدسي، بصفته مواطنا عربيا فلسطينيا، ممارسة حقه في الانتخاب، ويكون يوم الانتخابات في القدس يوم مواجهة شعبية شاملة، تشكل خطوة كبيرة على طريق انتفاضة الشعب الفلسطيني كله.