القدس قصة كل الناس

صلاح هنية.jpg
حجم الخط

بقلم: صلاح هنية

لكلٍ منا قصةٌ مع القدس يحكيها بأسلوبه وطريقته الخاصة قبل الانتخابات وبعدها وخلالها، ولا تقتصر القصة على الانتخابات وشأنها (على أهميتها).
«أم محمد» فلاحة فلسطينية بامتياز تتذكّر أياماً كانت فيها تستقل الحافلة من بيت لحم الى القدس مباشرةً وتفترش الرصيف عند باب العامود أو باب الساهرة أو شارع السلطان سليمان وتبيع محاصيل الموسم، وتنسج علاقات مع زبائنها تظل راسخة الى أيام وأشهر وسنين، حتى أن الشباب في المحيط وبعض أصحاب المحلات باتوا رادارَ مراقبة لشرطة بلدية الاحتلال حتى لا يُلقوا بالحاوية بسطة «ام محمد» فتختفي لحين ذهابهم، وتعود بعد أن تطمئن انها تستطيع أن تكمل بيعها، المقدسيون لم يكونوا يوماً حجر عثرة في وجه هؤلاء النسوة البائعات، ولم يتأفف صاحب متجر من طلبهن صرف المال لإرجاع الباقي للزبون.
«أبو إسماعيل» صاحب مكتبة في رام الله كان مصدر رزقه الأساسي بيع الكتب الجامعية للكليات الجامعية في القدس، فيحضر لحصر أعداد الطلبة وأسماء الكتب المطلوبة ويوفر حتى بعض الكتب من مصادر أخرى من مكتبات الخليل ونابلس ويحضرها ليوزعها على الطلبة ويقبض ثمنها، وطبعاً «ابو إسماعيل» في ذهابه وعودته يتسوق من سوق القدس الذي يمتاز ببضائع ذات نكهة خاصة ويذهب، لأداء صلاة الظهر أو العصر في المسجد الأقصى، ويتكرر المشهد كل أربعة اشهر عند انتهاء الفصل الدراسي ومباشرة فصل جديد، ويبقى الكل له مصلحة في القدس يقضيها.
«خالد» الموظف في إحدى مؤسسات القدس لا يعود الى بيته قبل ان يقوم بجولة سريعة في القدس حتى لو (صد رد) ليصل خان الزيت ويبتاع البن المميز وبعض الحلويات التي يسميها الأطفال (حية) وكانت تتوفر فقط في سوق القدس، وغالباً ما يؤدي صلاة الظهر في المسجد الأقصى، وفي طريق عودته يستقل المركبة المرسيدس سبعة ركاب من باب العامود صوب رام الله، ويبدأ الحوار مع السائق الذي يعلن «انا بدي اروح من الشرفة باتجاه المنارة، لن أذهب طريق منتزه بلدية البيرة» فيتآمر الركاب ويدّعون أنهم جميعاً ذاهبون باتجاه المنتزه انتصاراً لتلك السيدة التي تريد ان تنزل عند المنتزه وليس المنارة، والمشكلة عندما تنكشف المؤامرة على السائق ويضطرون أن ينزلوا عند ملعب الفرندز لكي يكسبوا قليلاً من بياض الوجه.
«غالب» أستاذ رياضيات مميز من المعدودين يداوم في مدارس الأوقاف وغالباً كانت تسمى مدارس حسني الأشهب نسبةً الى مدير التربية والتعليم في القدس آنذاك، وهو أسعد الناس أنه يدرس في القدس ويعرف ابناء القدس، وعندما كان يتجول هو وأصدقاؤه في القدس يوم العطلة يحدثهم عن تفاصيل البلدة القديمة وكأنه دليل سياحي، ويرد السلام على طلبته الذين يستغلون يوم العطلة للدوام في مخبز والدهم أو محل خضاره أو بقالته في القدس، ويتلقى «غالب» تمنياً من مدير التربية ومدير مدرسة في ضاحية البريد أن يدرس يومين في الاسبوع فيها ليعزز المدرسة بتفوق في الرياضيات كما فعل في مدرسته، ويعز عليه أن يخرج من القدس يومين وفي نهاية الأمر يعتبرها خدمة يؤديها للطلبة اينما كانوا، وعندما تظهر نتائج الثانوية العامة يكون قد ترك أثراً في نسبة نجاح بتفوق 100% فتصبح مدارس القدس تحظى بالأوائل ويُحتفى بهم بأنهم أبناء القدس.
كان التدافع على عيادات الأطباء الأخصائيين في مستشفى المقاصد في القدس كبيراً، وترى الناس من الخليل وبيت لحم ورام الله ونابلس وجنين يتوافدون لتلك العيادات، كان فيها أطباء لامعون ويخلقون اطمئناناً نفسياً لدى المراجعين، وعندما يعودون يعلنون انهم باتوا أصحاء تماماً، كانت ساعات دوام الأطباء طويلة لتلبية الضغط الكبير على العيادة، فينهي الطبيب ارتباطه بالقسم الذي يعمل به في المستشفى ويذهب صوب العيادة ويستمر حتى ساعة متأخرة مساء، وكانت حركة المواصلات الى القدس ومنها لا تنقطع حتى ساعات المساء، ويليها معاناة البحث عن وسيلة مواصلات الى مدينتهم او قريتهم.
وحكاية الحكايات كان يحكيها الكل الفلسطيني في «بيت الشرق» مع أمير القدس فيصل الحسيني الذي ظل لآخر يوم في حياته يمتاز بطول البال والصفات القيادية المميزة التي لا تتمحور لصالح أحد ولا تخلق جماعات ومحاور الا جماعة القدس. كان صباحه يبدأ في منزل مهدد بالمصادرة في التله الفرنسية، وظهره في مواجهة في ساحات المسجد الأقصى، وعصراً يذهب للقاء في حي الأرمن ليطمئنهم أنه حي من أحياء القدس المحتلة ولن يكون غير ذلك، وفي ساعات المساء يعقد لقاء في بيت الشرق يحضره كل ألوان الطيف الفلسطيني، ليناقشوا هل يذهب فيصل للقاء ممثلة الاتحاد الأوروبي في المدرسة الصلاحية في القدس أم يقاطع لكي تأتي للقائه في بيت الشرق، ويفتح باب النقاش لساعات ليحسم الأمر «لا تذهب ابو العبد فلتأت هي»، وكان الأمر يتم حسب إرادة المقدسيين ومركز صناعة القرار السياسي والوطني «بيت الشرق».
اليوم لسنا بحاجة لإعادة التدريب مرة أخرى على قضايا نحن روادها ونحن من أسس لها عبر قصتنا في القدس. اذاً الانتخابات والدعاية الانتخابية في القدس في قلب القدس، وهي أمر يجب أن يُفرض فرضاً ولا يُترك لطرف فلسطيني وحده، بل هذه مسؤولية الكل الفلسطيني وشأن مؤسسات المجتمع الأهلي والمثقفين والكتاب والباحثين والحركة النسوية والحركة العمالية والطلابية.