يعود الحديث عن «الرابطة المشرقية» ليُطل برأسه كلما اشتدت المحن والخطوب بهذا المشرق، أو بأحد كياناته، وكلما أحسّ هذا المشرق، بأنه «متروك» من قبل أشقائه الأثرياء في «رابطة العروبة»، أو كلما بدا له، أن «العروبة» ذاتها، لم تعد تلك الرابطة/القاطرة، التي ستخرجه من مأزقه...آخر الدعوات لإحياء الرابطة المشرقية، جاءت على لسان جبران باسيل، الزعيم الإشكالي لأكبر تيار سياسي في لبنان.
قبلها، كان رئيس الوزراء العراقي، يتحدث عن «رابطة مشرقية»، متخطية وفقاً لتصوره، حدود «الهلال الخصيب»، «سوراقيا»، إلى مصر التي تشكل مع الأردن والعراق، مثلثاً ترتبط أضلاعه بشبكة مصالح ومطامح، تدور أساساً حول المنافع الاقتصادية والتبادلات التجارية وحاجات أسواق المال والعمل والسلع والخدمات بين مكوناته الثلاثة... مصطفى الكاظمي، كما جبران باسيل، وصلا إلى الدعوة ذاتها، لأسباب تأتلف وتختلف: إحساس بتخلي الأشقاء الأثرياء، وقلة رهان على الرابطة «القومية العربية»، ورغبة في تجنيب بلديهما ويلات التحول إلى ساحة من ساحات حروب المحاور الإقليمية المتصارعة.
مفكرون، كتاب وباحثون، تناولوا فكرة الهوية المشرقية، وغالباً في الإشارة إلى «بلاد الشام» والعراق بوصفها، «مصدّاً» في وجه رياح «البلقنة» العاتية التي تضرب «المشرق» بقسوة شديدة، وبالأخص في سنوات الربيع العربي العشر الأخيرة، والتي عمّقت وكرست شقوقاً وشروخاً سابقة، ضربت نسيجه الاجتماعي وقوّضت بنيانه المؤسسي: الحرب الأهلية في لبنان، حروب العراق والحرب الأميركية عليه.
خرائط المشرق، وهي ذاتها خرائط سايكس بيكو، تُغري دائماً لاعبين محليين وإقليميين، لاجتيازها، لكن ثبت بالملموس، أن هذه الخطوط «المذمومة» منذ أزيد من مئة عام، ما زالت تقاوم محاولات محوها وتبديدها: إيران وتركيا اجتازتاها وعبثتا بها، قبلها كان «داعش» يزيل نقاط الحدود بالجرافات، ويفتح المعابر بين شطري الشام والعراق في «دولة الخلافة»، لا مطرح هنا لمبادئ «وستفاليا»...وغالباً ما تأخذ عمليات القفز من فوق خطوط سايكس بيكو، شكلاً قومياً أو مذهبياً خالصاً: الكرد في شمال شرقي سورية وشمال غرب العراق، والعرب السنة زمن دولة الشام والعراق الداعشية، والسيولة الشيعية، التي شكلت أرضية الاختراق الإيراني للحدود السيادية لكيانات المشرق.
أكثر من «دزينتين» من المكونات والكيانات الاثنية والقومية والدينية يتوزع عليها أهل المشرق، بعضها دخل في حروب إلغاء وواجه تطهيراً عرقياً، وعمليات «ترانسفير» واسعة، أقليات وأكثريات، يتنمر بعضها على بعض، وتتبادل القمع والاضطهاد، ومحاولات مجهضة لصياغة «عقد اجتماعي» بين سكان البلاد ومكوناتها...هذه تربة خصبة، تتغذى منها عوامل «البلقنة» التي تضرب خرائط المشرق وتتهدد دوله وتعبث بسلامة النسيج الاجتماعي لسكانه.
في مواجهة رياح «البلقنة» العاتية، تتعالى الأصوات والنداءات لـ «أوربة» العلاقات بين كيانات المشرق ومكوناته، فالسوق المشتركة التي تحدث عنها باسيل، أو «المشرق الجديد» الذي بشّر به الكاظمي، أو حتى ما فاضت به كتب ومقالات وأبحاث دعاة «الهوية المشرقية»، تدعو في غالبها الأعم لـ «الأوربة»، بوصفها رابطة يمكن أن تنمو على جذع المصالح المشتركة، وتعيد انتاج سيرة «الاتحاد الأوروبي»، كشكل ناظم للعلاقات بين دوله وكياناته...لكن «المسكوت عنه» في الأطروحات المختلفة عن «الرابطة المشرقية»، أمران؛ الأول، أن تجربة الاتحاد الأوروبي نهضت على أرضية قيمية مشتركة: الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان، التي تلخصها «معايير كوبنهاجن»...والثاني؛ إن وجود إسرائيل في قلب هذا المشرق، هو بمثابة «قنبلة موقوتة»، يمكن أن تنفجر به في أي لحظة، فكيف يمكن تطوير رابطة مشرقية، بإدماج إسرائيل أم في مواجهتها؟، وهل ستتكئ «الرابطة المشرقية» إلى منظومة قيمية مشتركة، وما هي، أم أنها ستعتبر ذلك تدخلاً في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء، فتنتهي «الأوربة» إلى ما انتهت إليه «العوربة» من قبل: فشلاً مزمناً للنظام الإقليمي العربي؟