يمكن تقسيم تاريخ إسرائيل من حيث إستراتيجيتها في إدارة الصراع إلى مرحلتين رئيسيتين، الأولى: منذ قيام الكيان وحتى فوز الليكود بالحكم سنة 1977، لتبدأ بعدها المرحلة الثانية، والتي ستستمر حتى العام 1991، ثم تنضج في العام 1994، وهي إلى الآن قائمة ومستمرة.
المرحلة الأولى هي مرحلة بناء الدولة، وفيها تصدر حزب العمل السلطة، ومن أبرز سماتها، اقتصادياً: تبني سياسات شبه اشتراكية ومفهوم دولة الرفاه، ودعم النقابات العمالية، والحد الأدنى من التدخل الحكومي بالسوق. سياسياً: عدم الاعتراف بالشعب الفلسطيني أو بمنظمة التحرير، ومواصلة سياسات التهجير القسري (الترانسفير البطيء والهادئ)، مع دمج واحتواء من تبقى من سكان الضفة الغربية، والإبقاء على الحدود مفتوحة معها، والسعي لإيجاد بدائل عن منظمة التحرير، وعدم إيلاء الاستيطان أهمية كبيرة.
وطوال تلك الفترة ظل حزب العمل امتداداً طبيعياً للحركة الصهيونية (التي بدأت علمانية/قومية)، ومنفذاً أميناً لفكرها التوسعي الاستعماري.. وكانت مؤسسات الدولة والجيش وغالبية المجتمع ذات طبيعة علمانية.
بدأ الانقلاب في المرحلة الثانية، اقتصادياً: تصفية القواعد الشعبية لحزب العمل، تهميش الهستدروت، التحول إلى النيوليبرالية، والخصخصة، وتقليل التدخل الحكومي في السوق، والتخلي التدريجي عن مفهوم دولة الرفاه، وهذا تطلب الاعتماد على الأداة العملية الجديدة لإنجاح هذه السياسات، وهي الاستيطان.
سياسياً: في العام 1991، وفي أعقاب حرب الخليج، وانتهاء الانتفاضة الفلسطينية الأولى تحولت إسرائيل عن سياسات الدمج والاحتواء باتجاه سياسات الفصل (أي فصل الشعبين)، مع مواصلة الترانسفير البطيء والهادئ، من خلال الاستيلاء على الأرض، ودعم وتشجيع الاستيطان. وهذا تطلب إغلاق الحدود مع أراضي الـ67، وإعادة تعريف سكان المناطق المحتلة، والتعامل معهم بسياسات جديدة ومختلفة.
تُوج هذا المسار باتفاق أوسلو، ومع أن حزب العمل هو الذي أنجز الاتفاق إلا أنه كان ماضياً في السياسات النيوليبرالية ذاتها من ناحية، ومن ناحية ثانية توصلت إسرائيل إلى قناعة بعدم جدوى وعبثية سياسات الدمج والاحتواء، واستحالة تطبيق الترانسفير، وبالتالي وجدت نفسها مجبرة على التعامل مع الفلسطينيين والاعتراف بهم، ومن ثم الاعتراف بممثلهم الشرعي (م.ت.ف).
بعودة الليكود للحكم، بدأ التخلي عن أوسلو، مع الإبقاء على البنود التي تخدم إسرائيل فقط، والتحول من البحث عن حل سياسي مع الفلسطينيين إلى نهج عدم الحل، وكسب الوقت من خلال فرض الحقائق على الأرض، بالقوة، وظل هذا المسار باتجاه تصاعدي، إلى أن تعزز بالانعطافة الكبرى عام 2005، حين انسحبت من قطاع غزة، تاركة القطاع لمصيره المجهول، والمنفصل عن الضفة الغربية، لتتفرغ هناك، حيث أرض الصراع الحقيقي والحاسم.
المهم في الموضوع أن ندرك الترابط العضوي والقوي بين المسارين الاقتصادي والسياسي، لفهم التحولات في الإستراتيجية الإسرائيلية، فيما يتعلق بفهمها للصراع وطريقة إدارته.
أضرت السياسات النيوليبرالية وتقليص مخصصات الرفاه الاجتماعي بالطبقة الوسطى والفقيرة، ما ولد لديهم شعوراً بعدم الأمان الاقتصادي والاجتماعي، ودفعهم لليمين بتأثير خطاب شعبوي يميني، حيث إنَّ تزامن الأزمة الاقتصادية مع الشعور بعدم الأمان يولد شوقاً لوجود زعيم قوي يحل محل الديمقراطية. وهذه أفضل وصفة لتنامي قوة اليمين. وترافق هذا مع السياسة الفاشلة لحزب العمل وتجاهله التركيز على القضايا الاقتصادية، والتركيز بدلاً منها على الأمن.
ومن أجل تبرير السياسات النيوليبرالية وشرعنتها والتغطية على أضرارها الفادحة على المجتمع، كان يجري اختلاق أعداء خارجيين، كالمبالغة في تصوير التهديد الإيراني، والتعمد في إفشال مساعي التسوية مع الفلسطينيين. والأهم من ذلك تعميق الاستيطان، من خلال تشجيع واستمالة الطبقات الضعيفة للانخراط في مشروع الاستيطان، واستمالة جمهور الصهيونية الدينية أكثر فأكثر نحو اليمين السياسي الاقتصادي؛ وهكذا، صار الاستيطان أداة تعويضية عن سقوط دولة الرفاه اليهودية.
خلال هذه الفترة زاد عدد المستوطنين في الضفة الغربية من بضعة آلاف عشية تسلم الليكود، حتى جاوز الـ 700 ألف الآن، وبالتالي تبلورت طبقة كبيرة من المستوطنين، الذين ربطوا مصالحهم بالنظام النيوليبرالي، وصارت الأحزاب اليمينية المتطرفة تعتمد «النيوليبرالية»، وهذا ما يفسر زيادة وتوسع الاستيطان بخط تصاعدي منتظم منذ بداية التسعينيات؛ حيث تحول الاستيطان من أحد أدوات السياسة النيوليبرالية، إلى أحد أهم مصادر قوتها السياسية والاقتصادية.
أخذت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تشجع الاستيطان، وتقدم كل التسهيلات للمستوطنين، ليكونوا أدواتها الاقتصادية والسياسية وقوتها الانتخابية، وأداتها في تطبيق الأطماع الصهيونية في التوسع، وابتلاع الضفة الغربية، وحشر من تبقى من الفلسطينيين في كنتونات معزولة.. وليقطع الاستيطان أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية.. وبالمناسبة، المتدينون اليهود يشكلون فقط 30% من مجموع المستوطنين، ولهذا دلالات مهمة لمن يريد أن يفهم طبيعة الصراع.
لكن المستوطنين لا يشكلون الخطر الأكبر على الفلسطينيين وحسب، ولا العائق الأهم أمام أي تسوية سياسية؛ بل صاروا يشكلون خطراً إستراتيجياً على إسرائيل نفسها. فمهما حاولت إسرائيل «الرسمية» ضبط المستوطنين والتحكم في مساراتهم، فستجد نفسها بعد زمن قصير وقد أفلتت الأمور من بين يديها.. هي الآن تتحكم بهم وتضبط إيقاع تحركاتهم لتحافظ على سمعة الدولة قدر المستطاع، وتحمي أمنها الداخلي، وتمنع التيارات المتطرفة من الانزلاق إلى معارك ليست ضمن حساباتها، ولكن، سيأتي يوم ويخرج المستوطنون من دائرة الالتزام بالحدود التي تضعها الدولة، وسيصبحون دولة داخل الدولة، وقد يتسببون بحرب أهلية يهودية.
منذ فترة ونحن نسمع عن مجموعات لمستوطنين متطرفين يرفعون شعارات «فلنحرق العرب»، «لا نريد عرباً في هذه الأرض»، «يجب تحطيم وجوههم القبيحة ودفنهم أحياء»، «هذه أرض اليهود»، «أحضروا كل الأدوات القتالية من بيوتكم، فلنحرقهم».
وبالفعل بدؤوا باقتناء سكاكين ومسدسات وهراوات، وشنوا العديد من الهجمات ضد الفلسطينيين، ووقعت مواجهات مباشرة مع الفلسطينيين في حيفا، ويافا، وطبريا، وآخرها كانت في شارع يافا في القدس، الأمر الذي أدى إلى خروج المقدسيين لمواجهتهم وإشعال الهبة الشعبية التي توجت بإجبار الشرطة الإسرائيلية على إزالة الحواجز في باب العامود.
اليوم، توجد في إسرائيل عشرات الجماعات الاستيطانية المتطرفة، مثل «شباب التلال» و»الثأر»، و»تدفيع الثمن»، و»أحباء الهيكل» و»كاخ» و»أمناء الهيكل»، و»حراس الهيكل»، و»أحفاد كهانا»، و»أبناء يهوذا»، و»إعادة التاج».. وغيرهم الكثير.
أبناء هذه الجماعات هم الذين اقترفوا مذبحة ريشون لتسيون، ومذبحة الحرم الإبراهيمي، ومن أحرقوا عائلة الدوابشة، وأحرقوا الطفل أبو خضير.. وهم الذين يواظبون على اقتحام الأقصى، ويريدون الاستيلاء على الشيخ جراح.
لذا، حربنا الدائمة مع الاحتلال، وأداته المجرمة «المستوطنين».