كما تابعنا وتتبّعنا على مدى زمني طويل، كانت حكومة التطرف اليميني في إسرائيل وخلال السنة الأخيرة على وجه الخصوص والتحديد تحاول «حسم» مسألة القدس، وطيّ ملف المدينة، وإخراجها من دائرة التسوية، وإنهاء المعركة حول المدينة بأقصى سرعة ممكنة، وبأعلى وتيرة تهويدية واستيطانية مستفيدة من قرار الرئيس الأميركي ترامب باعتبار المدينة عاصمة لدولة الاحتلال، وموحَّدة تحت السيادة الاسرائيلية، ومستثمرة للدعم الأميركي اليميني لهذا التوجه.
ساعد الوضع العربي المنهار والمستسلم للارادة الأميركية، والذي وصل إلى حد تسخير التطبيع العربي مع اسرائيل في خدمة «حسم» المعركة في المدينة وعليها وعلى كامل مستقبلها.. وشجع اليمين الاسرائيلي المتطرف، والأشد تطرفاً، وكذلك رعاع المستوطنين لتكثيف الهجمة الاحتلالية على المدينة الفلسطينية وعلى سكانها المقدسيين داخل أسوار المدينة وخارج هذه الأسوار، في حملات متواصلة ومركّزة ومنظمة لحسم الأمور وتكريس السيطرة الاسرائيلية والإطباق على مقدساتها بوجه خاص الإسلامية والمسيحية على حد سواء.
وبالعودة إلى هذا المخطط بالذات فقد تبين الآن وبصورة جلية ومكشوفة أن الاحتلال بات يركز جهوده على المدينة القديمة، وبات يطمح إلى محاصرة الوصاية الاردنية على المقدسات، ويجاهر بضرورة «شلّ» الأوقاف، كما بات يعمل بصورة ممنهجة «لشلّ» نشاط السلطة الوطنية في المدينة وبالتركيز الخاص وغير المسبوق على كوادر الحركة الوطنية في المدينة.
وبالعودة إلى مراحل هذا المخطط التنفيذي المباشر لاحظنا كيف أن قوى الاحتلال ومنظوماته من المستوطنين والشرطة والأذرع الأمنية وبعض قطاعات الجيش الخاصة بدأت بافتعال قضية سلوان ثم البوابات، ثم باب الرحمة وقبلها المقابر وصولاً إلى التطهير العرقي المفضوح في قضية الشيخ جرّاح.
هُزم الاحتلال شرّ هزيمة في معظم هذه المعارك، وكان يُمعن في ذات المخطط والتوجه إذا هُزم أو إذا أُحبطت مخططاته أو تعرضت لأي انتكاسات أو اذا فرض عليه التراجع بسبب صلابة الموقفين الفلسطيني والأردني، أو بسبب الضغوط الدولية، وخصوصاً الأوروبية منها.
ويبقى السؤال: لماذا الآن، والآن بالذات تحولت معركة القدس إلى معركة فاصلة؟
أولاً، سقوط ترامب ومجيء إدارة أميركية جديدة، قد لا تتمكن، وقد لا ترغب في «إلغاء» قرار ترامب حول المدينة، ولكنها لن تقبل أبداً اعتبار أن المعركة في القدس وعليها، قد حسمت، واعتبار ان محاولات حسمها من قبل اليمين الاسرائيلي وخلق أمر واقع «جديد» فيها يمكن ان يكون مقبولاً من هذه الادارة الجديدة، أو حتى يمكن السكوت عليه أو التغاضي عنه.
هنا «أدركت» الحكومة الاحتلالية اليمينية أن المعركة حول المدينة، والتي لم تحسم في السنة الأخيرة من حكم الرئيس «الراسب» دونالد ترامب لا بد أن تحسم قبل فوات الأوان.
الأوان هنا يعني تحديداً قبل أن يحين أوان الاهتمام الأميركي بالملف، وقبل أن تبدأ الإدارة الجديدة بتكريس جهود جديدة وخاصة بملف الصراع الشرق أوسطي كله، والصراع الفلسطيني الإسرائيلي في القلب منه.
والأوان هنا يعني أيضاً، قبل التوصل إلى صيغة مستقرة جديدة حول الملف الايراني، وحول الملف النووي تحديداً، وذلك لأن دولة الاحتلال وحكومتها العنصرية المتطرفة تعرف أنها، ومهما حاولت عرقلة حل هذا الملف بين الولايات المتحدة وايران فإنها في نهاية الأمر لن تقوى على منع التوصل إلى اتفاق جديد، وأن أقصى ما يمكن ان تصل اليه هو شراء أو الطموح بشراء «السكوت» الأميركي حول وحيال المخططات الاسرائيلية، او بالأحرى مقايضة «القبول الإسرائيلي و»تقبلها» في مقابل الاتفاق القادم بين الولايات المتحدة وايران.
ثانياً: أدرك اليمين الاسرائيلي منذ نتائج الانتخابات الاسرائيلية الثانية، ثم نتائج الانتخابات الثالثة والرابعة، واحتمال الذهاب إلى اخرى خامسة.. أدرك هذا اليمين ان الانزياح في كل تصويتات هذه الانتخابات نحو اليمين، ونحو المزيد من التطرف والعنصرية لم يعد يعني أبداً تماسك هذا اليمين، وتوافقه على حكومة موحدة من كل المكونات السياسية والحزبية لهذا اليمين.
الشرخ العميق في واقع هذا اليمين الذي كان نتنياهو يتلاعب بمصيره، وبكل مساره أيضاً، تحول اليوم إلى أمر واقع سياسي جديد، بل وأصبح هذا الواقع اليوم هو عنوان رئيس في قراءة مرحلة جديدة تدخل إليها دولة الاحتلال.
لم يشفع لنتنياهو نجاحاته في «الكورونا»، ولا في التطبيع العربي الاسرائيلي، ولا حتى في اعادة دوران العجلة الاقتصادية، ولا حتى استعراضاته العسكرية والأمنية ضد سورية وايران، وبات اليوم العنوان الرئيس للانتهازية السياسية الفاسدة، وأصبح مثار تساؤلات كثيرة، ليس من قبل الوسط واليسار فقط، وإنما من قبل اليمين بكل مكوناته السياسية والحزبية، بما في ذلك من قبل أوساط من داخل الليكود نفسه، والتي باتت تشكك في بقاء الليكود الحزب الأكبر في اسرائيل في حالة «نجاح» لابيد بتشكيل حكومة جديدة، أو حتى في حالة الذهاب إلى انتخابات خامسة.
هنا، وهنا بالذات يطمح اليمين العنصري والفاشي باستثمار أزمة نتنياهو «لحسم» معركة القدس كرافعة سياسية تعطل على لابيد مسار تشكيل الحكومة ـ بالرغم من أن لابيد لا يختلف مع هذا اليمين حول مسألة القدس بالعناوين الرئيسة ـ أو باستثمار هذا الحسم إلى أقصى الحدود الممكنة في حال ان تم الذهاب إلى انتخابات خامسة.
وبقدر ما يتعلق الأمر بنتنياهو نفسه فإنه على استعداد تام لخوض معركة الحسم حول المدينة، وبما يصل إلى أبعد من كل التصورات، طالما أن مصيره السياسي يغرق ولم يعد يخشى على نفسه من البلل.
ثالثاً: يرغب اليمين الاستيطاني العنصري والفاشي بأن يجرّ المجتمعين الفلسطيني والإسرائيلي إلى دائرة العنف، وإلى دائرة الصراع الديني، لأن الصراع إذا بقي «سلمياً» من الجانب الفلسطيني، وإذا ما بقي العنف مجرد أعمال فردية معزولة فإن التركيز سيبقى سياسياً والحلول أو التسويات ستظل سياسية، وستظل الشرعية الدولية والقانون الدولي في مركز الاهتمام وفي صلب المرجعية الدولية وهو الأمر الذي يراه اليمين الاستيطاني الفاشي «خطراً» داهماً لا يجوز مداراته أو السكوت عليه، أو الارتهان لتبعاته.
لكل هذه الأسباب فإن معركة القدس فاصلة، وهي تدور حول محاصرة قرار ترامب حول المدينة على طريق إسقاطه، وهي معركة لم تعد محصورة في التصدي الأردني والفلسطيني فقط، وإنما وبسبب صمود المقدسيين وبطولاتهم ـ يمكن أن تصل تصديات جديدة من قبل العالم بأسره سواء على مستوى أحرار العالم أو جهات رسمية دولية، والأهم أنها يمكن أن تصل وقريباً على ما يبدو إلى هبّات وطنية فلسطينية قد تلتحم مع حراك شعبي عربي كبير وذلك بالنظر إلى حساسية المدينة وقدسيتها.
القدس هي القضية الوحيدة التي يمكنها تحويل الصراع حولها إلى صراع ديني، ومن هنا بالذات يأتي الخطر.