يفرض الحدث الفلسطيني نفسه، الآن، على كل شيء آخر. ولا معنى لكل شيء آخر، إلا بقدر ما يتصل بالحدث الفلسطيني، وما ينبثق عنه من تداعيات في فلسطين، والإقليم، والعالم. لا يحتمل، ولا ينبغي أن يحتمل، حدث من هذا العيار، الاختزال أو التبسيط، بل ينبغي التعامل معه على أكثر من صعيد بعقل بارد، وقلب حار.
وفي هذا ما يستدعي محاولة القبض على مروحة واسعة من الدلالات، على مدار أسابيع طويلة لاحقة، على الأرجح. وبما أن الحدث في طور التشكيل، في الزمان والمكان، فهو «يَكتب» نفسه، أيضاً، بقدر ما «يُكتب» بوصفه لحظة تنفتح على تأويلات ليست نهائية، بالضرورة، ولكنها ضرورية لإغناء التفكير فيه، والكلام عنه.
وبهذا المعنى، ولكي لا نكرر العودة إلى هذه النقطة، بالذات، فإن تعبيرات حماسية ومفهومة، تماماً، من نوع «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»، لا ينبغي أن تكون غير مقبولة وحسب، بل ويجب التحذير من مخاطرها، أيضاً. فوظيفة العامل في الحقل الثقافي، والمُعلّق على الشأن العام (أكره مفردة «المثقف» لأنها سخيفة) هي الحيلولة دون مصادرة الحق في التفكير النقدي بذريعة «الحشد والتعبئة». والواقع أن أحداً في الكون لم يدفع الثمن الباهظ لمصادرة هذا الحق بقدر ما دفع الفلسطينيون والعرب، على مدار عقود طويلة.
ثمة مروحة واسعة من دلالات الحدث الفلسطيني، كما قلنا، ونكتفي، اليوم، بدلالة لعلها الأبرز، والأهم، ولن يختلف عليها اثنان من الفلسطينيين (بالمؤنث والمذكّر، دائماً، وأينما وردت مفردة الفلسطيني)، على الأرجح، أعني النشوة الوطنية المفاجئة، والتعبير الفصيح عن الروح الكفاحية. وقد تجلى كلاهما بصورة جمعية سرت كالكهرباء في روح شعب وحّدته لحظة الروع والكبرياء، أينما كان، في جسد واحد توهّج بالنار والنور. ولن يكون هذا مفهوماً، بطريقة تصلح لاستخلاص العبر، دون تفسير نحاول استقراء ملامحه اليوم، وفي أيام لاحقة.
فلم يكن لأمر كهذا أن يحدث دون اجتماع عوامل مختلفة، تراكمت وتفاعلت على مدار فترة زمنية طويلة، ووصلت نتيجة حدث بعينه إلى لحظة الانفجار. وبهذا المعنى فإن حادثة «الشيخ جرّاح» هي الصاعق، أو عود الكبريت، أما التراكمات والتفاعلات فأقدم، وأبعد، وأعقد، من هذا بكثير. وما نعنيه بالتراكمات والتفاعلات، هنا، ودون ترتيب بالمعنى الزمني، فيمكن حصره في التالي:
أولاً، سنوات ترامب الشخص والظاهرة في البيت الأبيض. ولا يعنينا، الآن، كيف ولماذا وبماذا صعد، بل التذكير بحقيقة أن سياسة نقل السفارة الأميركية إلى القدس، والاعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان، ومحاولة تصفية «الأونروا»، وقضية اللاجئين، ضمن أشياء أُخرى، مثّلت انتهاكاً للقانون الدولي، ونجمت عن الاحتكام إلى منطق القوّة الغاشمة، لا غير. وهذا مهين إلى حد بعيد. فعلى الرغم من «نزق» بعض الفلسطينيين، أحياناً، إلا أن القانون والشرعية الدولية يمثلان نقطة ارتكاز يصعب تجاهلها، أو التقليل من شأنها.
ثانياً، توّج «سلام إبراهيم» كل ما تقدّم. وأهم ما انطوى عليه من دلالات أنه كان «طعنة في الظهر»، فعلاً، من جانب البعض، ومقايضة من جانب البعض الآخر. وفي الحالتين كانت المسألة الفلسطينية في المزاد. وما رش الملح على الجرح، فعلاً، ذلك العناق المحموم، والبذيء، من جانب البعض لإسرائيل. غالباً ما تُستخدم كلمة «التطبيع» في وصف ما تجلى من علاقات هؤلاء بإسرائيل، وهذا التعبير خاطئ فمن الصواب وصفه بالتحالف، والذي يضم أطرافاً لم تلتحق بالركب بعد. وقد عالجت هذا، ومبرراته، في سلسلة مقالات سبقت، ولا ضرورة للتكرار.
ثالثاً، أصاب ما يوصف خطأ بـ»الانقسام» الحقل السياسي الفلسطيني بالشلل، وولد إحساساً عميقاً بالعار، وانسداد الأفق، وخيبة الأمل لدى الفلسطينيين. وما عمّق من هذا الإحساس أن سلخ غزة عن الضفة الغربية تكرّس فعلاً، وأن التشكيك في شرعية تمثيل منظمة التحرير أصبح جزءاً من السجال العام. وقد تفاقم هذا كله حين أصبح انسداد الأفق الدليل اليومي على فشل رهانات منظمة التحرير السياسية، وأصبح تمويل القطريين لـ»حماس» يمر عبر البوابة الإسرائيلية.
وإذا كان ثمة من مشهد يختزل هذا كله، فقد تجلى في مرحلة الإعداد لانتخابات تشريعية من شأنها تجديد الحقل السياسي، ومؤسساته، وإخراجها من حالة الشلل. وفي السياق، جرت محاولة من جانب «فتح» و»حماس» لدخول الانتخابات بقائمة موّحدة، وهذا ما لم يجد البعض صعوبة في تفسيره كتعبير عن خوف الجانبَين من الفشل. وفي السياق نفسه، تشظّت «فتح» في قوائم انتخابية، كما حدث في انتخابات العام 2006، ودخلت أطراف خليجية على خط الانتخابات بقوائم تموّلها. ووصلت الانتخابات نفسها طريقاً مسدودة.
خلق ما تقدّم من عوامل، إضافة إلى غيرها (ستجد مكانها في معالجات لاحقة)، وضعاً كارثياً، بالمعنى السياسي، والوطني، وما يتصل بالأمرَين، وينبثق عنهما، من رمزية ورموز. ويمكن، مع تحفظات تحفظ الخصوصية، مقارنة ما حدث عشيّة انفجار العوامل مجتمعة بما حدث بعد هزيمة حزيران، وما حدث عشية الانتفاضة الأولى، بعد خروج منظمة التحرير من لبنان، وعشيّة الانتفاضة الثانية بعد استفزاز شارون للفلسطينيين في القدس، وفشل مفاوضات كامب ديفيد.
في كل هذه الحالات سرت رعدة خوف وغضب في جسد شعب قوي، وشجاع، لا يستسلم، ولا يقبل الضيم، في بلاده وخارجها. في رعدة الخوف والغضب ما يفسّر كيف يبدو الشعب، جريحاً ونازفاً، وكأنه يصحو من غيبوبة على حقيقة مَنْ هو ومَنْ يكون. ولكن ما معنى هذا كله، وإلى أين يمكن أن يأخذنا، وما صحة الكلام عن نهاية مرحلة وبداية غيرها، وماذا في وسعنا أن نفعل؟ أسئلة مفتوحة نجتهد في الكلام عنها في معالجات لاحقة.