جاءت قرارات المجلس المركزي جيّدة، ورحّبت فيها الفصائل، لدرجة أنّ «حماس» التي قاطعت الاجتماع رحّبت بالعديد من قراراته. وفي الوقت الذي رحّبت فيه الفصائل لم نلمس ترحيبًا شعبيًّا، هل لأنّ الناس تخشى من ردّة الفعل الإسرائيليّة والأميركيّة، وربما الأوروبيّة، على قرارات مثل وقف التنسيق الأمني، وتحميل الاحتلال المسؤولية عن احتلاله، وإعادة النظر في العلاقة معه، ووقف «اتفاقية باريس» الاقتصادية، وعقد الإطار القيادي المؤقت لمنظمة التحرير، وتفعيل المجلس التشريعي، والتوجه نحو إجراء الانتخابات.
ربما، لكن هذا التفسير غير مقنع، لأن الفصائل والشعب يطالبان بقوة وأغلبية كبيرة باتخاذ هذه الخطوات.
إذًا، ما السبب وراء اللامبالاة الشعبية؟ حتى نجيب عن هذا السؤال يجب أن نتذكر أن الشعب مغيب عن المشاركة في تقرير مصيره منذ فترة طويلة، وأنّ الهوة ما بين القيادة كبيرة وفي اتساع مستمر، كما أن هناك قرارات كثيرة مشابهة قد تم اتخاذها في الاجتماعات السابقة للجنة التنفيذية، مثل القرارات التي اتخذت في الثالث والعشرين من تموز الماضي، وتلك التي اتخذها المجلس المركزي في اجتماعه السابق في نيسان الماضي؛ كانت حبرًا على ورق، ولم تجد طريقها للتنفيذ، أو نفّذت بطريقة أفرغتها من مضمونها، لدرجة لم يلاحظ المواطن الفرق بين ما قبل أو ما بعد اتخاذها.
على سبيل المثال، تحدّت القيادة الفلسطينية إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية بحصولها على العضوية كدولة «مراقب» في الأمم المتحدة، ولكنها تصرفت بعد هذا القرار التاريخي كما كانت تتصرف قبله، باستثناء التوجه إلى مجلس الأمن بمشروع قرار، أبرز ما فيه الهبوط عن سقف البرنامج الوطني وعما تقرّه الشرعية الدولية، مكتفية بتحديد موعد نهائي لإنهاء الاحتلال.
المضمون الهابط كرّس الكثير من التنازلات التي قدمها المفاوض الفلسطيني خلال المسيرة الطويلة العقيمة التي مرت فيها المفاوضات، مثل الإشارة إلى الاستعداد لقبول حل متفق عليه لقضية اللاجئين، والموافقة على مبدأ «تبادل الأراضي»، وغيرها من القضايا التي لا يتسع المجال لعرضها في هذا المقال.
لقد أصبح المواطن يتعامل مع قرارات المؤسسات المختلفة على أساس أنها مجرد كلام ليس عليه جمرك، أي لا يُعمل به.
ما زاد من لامبالاة المواطنين أنهم استمعوا إلى تفسيرات مختلفة لكيفية التعامل مع قرارات المجلس، فهناك تفسيرات عدة قدّمها أعضاء في اللجنة التنفيذية ومسؤولون لم يعرّفوا عن أنفسهم، إذ تحدث كل واحد منهم بشكل مختلف.
فقال أحدهم إنّ قرارات المجلس المركزي ملزمة للسلطة والمنظمة، لأنه أعلى مؤسسة في ظل غياب المجلس الوطني.
فالمجلس المركزي أنشأ السلطة ومدد لها عندما انتهت مدّتها في أيار 1999 (تاريخ انتهاء المفاوضات للتوصل إلى اتفاق نهائي كما نصّ «اتفاق أوسلو»)، والمجلس هو الذي مدد ولاية الرئيس والمجلس التشريعي. وأضاف: إذا لم تلتزم إسرائيل بالاتفاقيات وتوقف تجميد الأموال سيكون عليها تحمل مسؤولية ما يحدث، بما في ذلك تطبيق القرارات التي أصدرها المركزي. ما يعني (إما أو) أنّ الرهانّ مستمرٌ على إمكانية إحياء «أوسلو» لجهة تطبيق الالتزامات الإسرائيلية. إسرائيل قتلت «أوسلو» منذ زمن بعيد، ويجب أن تتحمل المسؤولية عن ذلك، وهي تريد استمرار الالتزامات الفلسطينية فيه، ولكن «أوسلو» انتهى إسرائيليًا، وعلى القيادة الفلسطينية أن تدرك ذلك وتتعامل على هذا الأساس، فلا يمكن إحياء العظام وهي رميم.
وقال آخر - ضمن مصدر فلسطيني مجهول، وعادة ما يكون هؤلاء من القريبين من الرئاسة - إن القرارات توصيات سينظر الرئيس في كيفية وإمكانية وفترة تنفيذها، وإنها بحاجة إلى صدور مرسوم رئاسي، وسط توقعات بأنه لن ينفذها على الأقل حتى إجراء الانتخابات الإسرائيلية، حتى لا يؤدي تنفيذها إلى زيادة فرص اليمين في الانتخابات، والرهان معقود على سقوط نتنياهو واليمين.
وقال ثالث إن هناك لجنة شكّلت للبحث في الآليات المناسبة لتنفيذ قرارات المجلس المركزي، بينما قال رابع إن اللجنة التنفيذية ستبحث في اجتماعها القادم في كيفية وضعها موضع التنفيذ.
إن السبب وراء هذا الارتباك أن الإرادة السياسية لتغيير المسار غير متوفرة، وأن الاستعدادات المنفذة قبل اتخاذ القرارات لا تشير إلى نية حقيقية لتنفيذها، كما أن العواقب المحتملة لها إذا نفّذت تستدعي توفير البدائل سلفًا، فمثلاً كيف ستكون المواجهة القادمة، وما أشكال النضال المناسبة، وما الأهداف المباشرة والمتوسطة والبعيدة، ومن سيوفر رواتب الموظفين؟ أو كيف سيتم التعامل مع هذا الأمر وغيره، خصوصًا إذا استمر تجميد تحويل الأموال من إسرائيل، وإذا اتّخذت الإدارة الأميركية قرارًا بوقف مساعداتها؟ فالإدارة الأميركية وأوروبا، وحتى الأمين العام للأمم المتحدة رفضوا القرارات، وخصوصًا وقف التنسيق الأمني وطالبوا القيادة الفلسطينية بتجميدها.
إذا انهارت السلطة نتيجة لكل ذلك من سيحل محلها، والمثل يقول: «إذا بدها تشتّي غيّمت»، وإذا أرادت القيادة التخلص من التزامات أوسلو عليها أن تبني البدائل وتضع إستراتيجيّات قادرة على الصمود والمجابهة، وعلى رأسها إعطاء الأولوية لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية، وإعادة بناء وتفعيل المنظمة، وضم مختلف الأطياف إليها، واستعادة ثقة الشعب المفقودة بها حتى تكون الإطار الجامع والممثل الشرعي الحقيقي، ولتكون البديل عن السلطة في حال انهيارها، إضافة إلى الإعلان عن تجسيد الدولة على الأرض، وهل سيسبق الانهيار، أم سينجم عنه، أم سيتم التخلي عن شعار الدولة والانتقال إلى خيارات أخرى؟
لا شيء مما سبق يحدث، بل رأينا تعاملاً غير جدي من خلال قول الرئيس إنه مستعد لإصدار مرسوم بإجراء الانتخابات إذا وقّعت «حماس» على الموافقة على ذلك.
عن أي انتخابات يتحدث الرئيس، عن انتخابات لسلطة الحكم الذاتي أم للدولة، وعلى أساس أي قانون انتخابات، وهل لديه أو يمكن أن يحصل على موافقة أميركية إسرائيلية أوروبية دولية على إجرائها، بغض النظر عن نتائج الانتخابات الإسرائيلية وعن وجود أو عدم وجود عملية سياسية أو مضمون سياسي؟
هل ستكون الانتخابات تمهيدًا لإحياء ما يسمى «عملية السلام»، أو بداية نهج جديد ورأس حربة معركة السيادة والاستقلال، أو السهم الأخير لما يسمى «حل الدولتين»، والاستعداد لخيار الدولة الواحدة على أساس الكفاح ضد المشروع الاستعماري الاستيطاني الاحتلالي من أجل هزيمته وتفكيكه كشرط لقيام مثل هذه الدولة الواحدة؟
الانتظار هو سيد الموقف، ورسالة المجلس المركزي، وفقًا لمفهوم الرئيس لأنه صاحب السلطة الفعلية باتخاذ القرارات، في أحسن الأحوال هي الضغط على إسرائيل حتى تحوّل أموال العائدات الجمركية التي تجمعها للسلطة، لأنها إذا استمرت في حجزها ستضع القيادة والرئيس في موقف حرج، وقد تعرّض السلطة إذا استمر هذا الموقف إلى الانهيار.
إن سياسة الرئيس الوحيدة هي الانتظار وردود الأفعال الانتقائية اللامنهجية غير المترابطة، وبالرغم من أن العديد منها يسير في الاتجاه الصحيح، إلا أنها غير كافية لإحداث التحول التاريخي المطلوب.
الانتظار هذه المرّة سيكون لنتائج الانتخابات الإسرائيلية على أمل سقوط نتنياهو وائتلافه الحاكم، ليحل محله ائتلاف جديد مستعد للتفاوض والاعتراف بوجود طرف فلسطيني، ومع أن نجاح «المعسكر الصهيوني» لن يغيّر الخارطة السياسية، لأنه ملتزم باللاءات الإسرائيلية لأي حل: لا عودة إلى حدود 1967، والقدس هي العاصمة الأبدية، ولا عودة للاجئين، وبقاء السيطرة الإسرائيلية على الحدود والمعابر والموانئ والمطارات والأغوار والمناطق الأمنية والإستراتيجية، وامتلاك القوات الإسرائيلية لحق التدخل والمطاردة الساخنة، وضمان أن تكون الدولة منزوعة السلاح ولا ترتبط بأي معاهدات مع أي أطراف تعتبرها إسرائيل معادية، وأن تكون ضمن حل ينهي الصراع وجميع المطالب، وإسرائيل ستبقى يهودية وفقًا للأحزاب المركزية وغير المركزية.
أما الخلاف بين الأحزاب الصهيونية ففي جوهره ليس على المبدأ، وإنما على مدى الحاجة إلى إقرار قانون يقرّ ما هو قائم فعلاً على الأرض منذ تأسيس إسرائيل، ويسبب أضرارًا لإسرائيل.
ستظهر المعضلة أكثر إذا فاز ما يسمى «اليسار» و»الوسط»، لأنّ الوضع الفلسطيني الضعيف والمنقسم غير مؤهل لتوظيف التناقضات في إسرائيل، بل هو مؤهل للوقوع ضحيتها من جديد، وأن يبقى محصورًا في هوامشها الضيّقة، وربما تؤدي نتائج الانتخابات إلى حكومة وحدة في إسرائيل، لأنّ الأحزاب الصهيونيّة لن تقبل أن تحكم اعتمادًا على الأصوات العربية، إذ تتزايد التوقعات بأن تحصل القائمة العربية المشتركة على الترتيب الثالث بعدد مقاعد يُمكِن أن تُمكّن رئيسها من أن يتبوأ رئاسة المعارضة، ما يلزم رئيس الحكومة الإسرائيلية القادمة بالتشاور معه في قضايا مصيرية، وهذا من شأنه أن يمس بجوهر «يهودية» الدولة التي تحظى بشبه إجماع في إسرائيل، ما يفتح الباب أمام حكومة وحدة وطنية، وإلى تغيير القانون الذي يسمح لعربي أن يصبح رئيسًا للمعارضة.
هناك بوادر وإرهاصات عديدة ومتناثرة تشير إلى أننا نقترب من مرحلة جديدة من نقطة تحوّل اقتربنا منها، بل يبدو أننا وصلنا إليها منذ وقت طويل، وتأبى القيادة الاعتراف بذلك، وتسعى للعودة إلى جنّة المفاوضات الثنائية حتى تقيم الدولة العتيدة.
المرحلة الآن ليست مرحلة فرض الحل الوطني، بل مرحلة صمود وتعزيز عوامل تواجد الشعب الفلسطيني على أرض وطنه واستعادة وحدته ومؤسساته ومشروعه الوطني، والتراجع عن التنازلات الكبيرة التي قدّمت، مثل الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود، ونبذ الحق الفلسطيني في المقاومة وبأثر رجعي، والتنسيق الأمني، والتبعية الاقتصادية، والقبول بالالتزام بالاتفاقيات من جانب واحد، واستمرار الحكم الذاتي، وتقليل الأضرار والخسائر، وإحباط السيناريوهات والخيارات المفضلة لدى إسرائيل، بما فيها استمرار الأمر الواقع، والبدء بشكل تدريجي للتراجع عن «أوسلو» واعتماد مقاربة جديدة.
وعندما يتم ذلك وتتغير الأحوال العربية والإقليمية والدولية يمكن التقدم على طريق تحقيق الحل الوطني.