وماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم وخسر نفسه..!!

حسن خضر.jpg
حجم الخط

بقلم: حسن خضر

فلنضع الأمور في نصابها: وفاة إنسان في ظروف الاعتقال، أو التحقيق، نتيجة الإهمال الطبي، أو العنف النفسي أو البدني جريمة. وهي مُدانة لأسباب لا تتعلّق بما يعتنق المعني من أفكار، بصرف النظر عن مدى اتفاقنا أو اختلافنا معها. ولا معنى للإدانة، بهذا المعنى، ما لم تكن على طريق محاسبة الفاعلين، ومحاولة لإعادة النظر في الضوابط والقيود المهنية والأخلاقية للحيلولة دون وقوع جرائم مشابهة.
ولنضع الأمور في نصابها، أيضاً، بالقول إن ما تجلى من ردود فعل غاضبة من جانب مواطنين، وهيئات اجتماعية ذات صلة، بعد وفاة أحد النشطاء السياسيين في ظروف الاعتقال، ينطوي على عدة دلالات دفعة واحدة. وبما أنها كذلك، فإن في اختلاطها ما يرفع من شأن دلالة على حساب غيرها. لذا، ثمة ما يبرر القليل من البيان والتبيين:
أولاً، أن يغضب الفلسطينيون، نساءً ورجالاً، وهيئات حقوقية واجتماعية ذات صلة، بعد وفاة شخص في ظروف الاعتقال، أمرٌ إيجابي، وطبيعي، تماماً، وينطوي على دلالة أن لمبادئ المواطنة، وحقوق الإنسان، مكانة يُعتد بها في مجتمع الفلسطينيين رغم كل ما مر به وعليه. فمن غير الطبيعي أن تُرتكب جريمة كهذه في ظل صمت مطبق، أو تجاهل ولا مبالاة. والأدهى والأمر أن نجد من يحاول تبريرها، والدفاع عن مرتكبيها.
ثانياً، ولكي لا تختلط الأوراق فلنقل إن ما نجم من ردة فعل غاضبة على حادثة الوفاة يدل على ما هو أبعد منها. فالحادثة نفسها ليست سوى عود الثقاب في كومة القش. ويمكن، بالتأكيد، وضع قائمة طويلة من الأسباب التي أسهمت في خلق حالة الاحتقان. وهي تضم، بقدر ما أرى، ما هو أبعد من تأجيل الانتخابات، وما خلقت مجابهة متعددة الأوجه والساحات في أيار الماضي من تداعيات بعيدة المدى. المشكلة هي انسداد الأفق بالمعنى السياسي، وتناقص ما يملك الفلسطينيون من أوراق في هذا الشأن.
ثالثاً، أن يحاول البعض ركوب موجة الغضب، واستغلالها، لأسباب لا تمت لقيم المواطنة، ومبادئ حقوق الإنسان بصلة، هذا أمر مفهوم ومعلوم. ومع ذلك، يمكن إدانة هذا البعض بالمعنى الأخلاقي والسياسي، ولكن هذا كله لا يبرر قمعه، أو محاولة إسكاته بالعنف. فالقيم لا تحمي المؤمنين بها وحسب، بل والمعادين لها، أيضاً، طالما التزم هؤلاء بالتعبير السلمي عن النفس.
ثمة مناقشة بديعة لكارل بوبر عن «المجتمع المفتوح وأعدائه»، ومدى إمكانية التسامح أو اللاتسامح مع هؤلاء.
لا أعتقد أن النسق العربي ـ الإسلامي سينجب «مجتمعاً مفتوحاً» في وقت قريب. ومع ذلك، وبقدر ما يتعلّق الأمر بنا لا أمل في مجابهة الأبارتهايد بنجاح دون مشروع وثقافة وقوانين تمهّد «لمجتمع مفتوح»، ولا أمل في بلورة وطنية فلسطينية تُجسّد معنى فلسطين، وتتماهى معها، ما لم تكن منفتحة وتعددية.
رابعاً، ولكي لا نتصرف على طريقة النعام، فلنقل إن ثمة محاولة متعددة الأطراف، والساحات، والأوجه، للاستيلاء على منظمة التحرير، وتقويض السلطة الفلسطينية. وإن هذه المحاولة تشكّل مصدر قلق عميق في نظر ممثلي السلطة، والقائمين عليها. وفي سياق كهذا يمكن أن يلتحق بالحملة المذكورة الكثير ممن سماهم طيّب الذكر لينين «بالمغفلين المفيدين». فهؤلاء أصحاب تحفّظات صحيحة وجدية على بنية وسلوك وسياسة السلطة، ولا يدينون بالولاء لحماس، أو يعتنقون أفكارها، ولكنهم يصبّون الماء بطاحونتها في الغالب.
خامساً، ولا ينبغي بالقدر نفسه، في سياق كهذا، تجاهل حقيقة أن بين راكبي الموجة في الاتجاه المعاكس، أي من ينبري للدفاع عن السلطة بحماسة بالغة من لا يقل خطراً عليها ممن يريدون تقويضها. فالكثير من أوجه الدفاع لأسباب تنظيمية، وأيديولوجية، أو حتى وظيفية وعائلية ومناطقية، قد يُلحق من الضرر أكثر مما يجني من الفائدة.
لذا، في جريمة مقتل ناشط سياسي في ظروف الاعتقال لدى السلطة، وفي ردة الفعل الغاضية عليها، بصرف النظر عن الدوافع والأسباب، وفي تشكيل لجنة تحقيق متعددة الأطراف في هذا الشأن، ما قد يشكّل فرصة ذهبية لإعادة بناء قدر من الثقة بين السلطة ومواطنيها. فبقدر ما يتجلى ما وقع كمأزق، إلا أنه يمكن أن يكون مدخلاً للحل، أيضاً.
ولكن هذا كله مشروط بالشفافية، والمهنية العالية، وإحقاق الحق، ومحاسبة الفاعلين، وبلورة آليات تضمن عدم تكرار ما حدث. وهذا عمل طويل لا ينتهي مع صدور بيان، أو تشكيل محكمة خاصة، بل ينبغي النظر إلى أشياء كهذه كمدخل للحل لا كخاتمة له.
وإذا أعدنا صياغة عبارة شائعة لحبيبنا وابن بلادنا يسوع: «ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه»، يمكن أن نصل إلى القاعدة الذهبية التالية: «وماذا ينفع السلطة الفلسطينية لو ربحت أذرعتها الأمنية كلها، وخسرت شعبها».