عن دراسة الماضي ولكن بمنظور الحاضر

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

بقلم: عبد الغني سلامة

في التاريخ المبكر للإسلام، حدثت انشقاقات وتصدعات بين المسلمين الأوائل، عُرفت بِـ»الفتنة». بعض المؤرخين يرى أن الفتنة بدأت بالخروج على الخليفة عثمان، ومحاصرته ثم قتله، وآخرون يقولون: إنها بدأت بحروب الردة، وآخرون يقولون: إنها بدأت بسقيفة بني ساعدة.
لنؤجل قليلاً الحديث عن أسباب الخلافات، ومتى بدأت الفتنة بالضبط.. المهم أن الخلافات تطورت إلى صراعات عنيفة.. بدأت بمعركة الجمل، ثم صفين.. وسرعان ما أخذت تظهر أسماء ومصطلحات وأحداث ومواقع لها دلالاتها في تلك الصراعات: عائشة، علي، معاوية، الخوارج، النهروان، التحكيم، الحسين، كربلاء، يزيد، موقعة الحرة، عبد الله بن الزبير، قصف الكعبة، الحجاج.. وكل عنوان منها يحتاج دراسة مستفيضة، لذا سأكتفي ببعض الملاحظات:
كل تلك المعارك والصراعات حدثت فعلاً حسب الروايات الإسلامية المعتمدة والموثقة في الكتب والمراجع الإسلامية، ولا يوجد من علماء المسلمين ومؤرخيهم من ينكرها.. ولكن توجد اختلافات في التفاصيل والشروح بين السُنَّة والشيعة وبقية الفرق والتيارات الإسلامية، وفي فهم وتفسير وتبرير تلك الأحداث، وفي أعداد المشاركين فيها، وأعداد الضحايا.
وهناك محاولات لتجاهل هذا التاريخ، ولطيّ تلك الصفحة، أو التقليل من شأنها، أو التهرب من ذكرها.. لأسباب مختلفة، منها الرغبة في التحرر من سطوة الماضي وآثاره السلبية، ولأنه يعيق الانطلاق نحو المستقبل، بل ويعيق العيش في الحاضر ويعكر صفوه. ومنها بدافع الخجل من هذا التاريخ، والرغبة بإظهار الجانب المشرق والإيجابي فقط من التاريخ.
وهنالك رواية تاريخية موازية تختلف جذرياً مع الرواية الإسلامية في جغرافية وتاريخية وشخوص وأحداث الإسلام المبكر في القرن الأول الهجري.. ولا مجال للحديث عنها هنا.
ما الفائدة من نبش الماضي؟
الحقيقة أن تلك الأحداث غيرت مجرى التاريخ، بل وتأسس فوقها تاريخ المنطقة بأسره، وما زالت حاضرة وفاعلة، ونحن ضحاياها وما زلنا ندفع أثمانها، وبالتالي لا جدوى من تجاهلها، بل يتوجب دراستها وفهمها.. ولكن بمنظور الحاضر، أي بقراءة تاريخية متحررة من الأيديولوجية والنزعات الطائفية، أو الانحيازات المسبقة، والتبريرات غير المنطقية..
أولاً، لنتفق على وجود مشكلة في تضخيم الأرقام، فمثلاً في معركة الجمل قُتل 15 ألفاً، وفي صفين أزيد من خمسين ألفاً.. ولو كان وقتها أسلحة دمار شامل لما وقع هذا العدد من القتلى!
ولكن قلة الأعداد أو كثرتها لا تنفي حدوث الاقتتال نفسه، ولا تقلل من شأن نتائجه.
وثانياً، الموضوع لا علاقة له بتشويه صورة الإسلام المبكر، أو الإساءة للصحابة.. فهذه الأحداث ذكرها كبار المؤرخين المسلمين. وتجاهُلها الآن يفتح المجال لغير المسلمين بإعادة طرحها، ولكن بمناهج ومنطلقات مختلفة، ربما تكون عدائية.
وثالثاً: التبريرات الغيبية، والطيبة، والمثالية غير مقنعة؛ فهي تنطلق من رؤية غير تاريخية، وغير علمية، بحيث تصوّر الصحابة وكأنهم فوق البشر، ولا يخطئون، وليس لديهم نزعات آدمية، فتخفف من قسوة المشهد بعبارات تلطيفية، متناسية أنهم اقتتلوا فيما بينهم بالسيوف، وعندما يصل الأمر إلى استخدام السيوف في مواجهة مباشرة لا ينفع لوصف المشهد أي محاولات تجميلية، فتلك كانت معارك دموية عنيفة، ولم تكن ندوات فكرية.
ورابعاً: القراءات الاستشراقية ليست بالضرورة معادية، وما يميزها تحررها من سطوة المقدس، ولكن ليست كلها بريئة، أو صحيحة بالضرورة، فهي وجهات نظر، وحتى لو اعتمدت الأركيولوجيا ومنهج البحث العلمي، فإنها ستتباين بالتفسيرات والتحليلات.
وخامساً: الحكم على أطراف الصراع، أو على أي شخص أو هدف لا يجوز أن يُبنى على الظن والهوى والتوقعات، بل بجب أن يكون ضمن معطيات موضوعية وأدلة مادية وتحليل علمي للشخصيات وقراءة منطقية للأحداث.. والموضوع لا علاقة له بالنوايا، التي لا يعلمها إلا الله.
وسادساً، لا جدوى من تشبيه تلك الصراعات مع الحروب الدينية الأوروبية والحملات الصليبية والحروب الأهلية والاستعمار الحديث. وعقد المقارنات بينها في القسوة والبطش وأعداد الضحايا هو تفكير عبثي.. فكل الحروب مدانة، وقتل النفس مدان ومحرم، وحدوث جريمة في مكان وزمان معينَين لا يبرر وقوعها في مكان وزمان آخرَين..  
وسابعاً: القراءة الإسلاموية لتلك المرحلة تغلب عليها النظرة المثالية، ومحاولات تجميل الأحداث، فتصور كل فريق يدافع عن الحق، ضد الباطل الذي رآه في خصمه.. وفي الحقيقة، هذا يوقعنا في ورطة؛ فالقتال من هذا النوع مهما حاولنا تجميله، أو تغيير اسمه، يظل في جوهره نوعاً من الحروب الدينية، وفي الحروب الدينية العقائدية يكون الصراع أشد، فهو صراع بين الحق والباطل، بين الخير والشر، وبين العدل والظلم، وبين الإيمان والكفر.. وكل فريق يؤمن بأنه يجسّد الحق والخير والعدل والإيمان.. والفريق الآخر يجسد الباطل، والشر، والظلم، والكفر.. وإلا لا مبرر للقتال أصلاً.
القراءة المادية المتطرفة لتلك الأحداث تلغي أي جانب روحي ومعنوي، وتنفي وجود أي نوايا حسنة، وتصور أن الموضوع مجرد صراع وحشي، وسفك دماء لأناس اعتادوا الغزو، وتقاتُل على السلطة لأجل السلطة. وهذا منهج غير صحيح.
وأخيراً: ما جرى بين الصحابة من نزاعات واقتتال يشبه أي نزاع أو اقتتال حدث أو سيحدث في أي مكان وزمان، فالصحابة بشر، وليسوا ملائكة، يصيبون ويخطئون، ولديهم نزعات آدمية ومادية، ولديهم طموح وأهواء، يخافون ويكرهون، يحبون وينحازون، وكل فريق يحاول دعم شرعيته بالاستناد إلى النصوص المقدسة. يمارسون السياسة بكل ما فيها من مكائد ومخططات. شأنهم في ذلك شأن كل المجتمعات الإنسانية، ووفقاً لطبيعة المرحلة التاريخية. وتاريخ المسلمين تاريخ بشري فيه الصواب والخطأ.. ولا وجود للمدينة الفاضلة.
وهذه الخلافات كانت تعبيراً عن صراع بين تيارين: تيار من فَهِم الإسلام كثورة اجتماعية وحركة تغيير تاريخية، والتيار التقليدي القبلي، وهذا الصراع كان يحدث أيضاً داخل الفرد الواحد. وما وفر بيئة مشجعة للصراع أن المسلمين الأوائل لم يتمكنوا من بلورة نظام حكم مؤسسي، تتحدد فيه طريقة تعيين الخليفة، ومدة خلافته، وغيرها من التفاصيل، فكل خليفة راشدي عُـيّن بطريقة مختلفة، ثم صار الحكم بالتوريث، أي بعد أن اتسعت رقعة الدولة، وتعقدت الحياة الاجتماعية والاقتصادية وصارت بحاجة لنظام حكم أكبر وأشمل وأكثر تطوراً، بما يتماشى مع طبيعة تلك المرحلة (الحكم الإمبراطوري)، ونحن من سمّيناه خلافة.