نحن عالقون في أزمة مركبة ومأزق ذريع، هذه هي الحال من دون مبالغة ولا تزويق، فالخيارات السياسية مبهمة، والأوضاع الاقتصادية صعبة، والسلطة تعالج أخطاءها بمزيد من الأخطاء التي يصل بعضها إلى الخطايا مثل تصفية المعارض نزار بنات، ثم ردود الفعل القاسية والعنيفة وغير المبررة على الإطلاق في قمع الاحتجاجات كسحل المتظاهرين في الشوارع، وضرب الصحفيين، واعتقال القيادات الوطنية، فضلا عن الاستقواء بتنظيم فتح، التنظيم الوطني المناضل والأكبر الذي وجد لقيادة الحركة الوطنية نحو الحرية، وزجّه في مواجهة قطاعات من الشعب، أما المعارضة فهي مشتتة ومتفرقة إلى درجة يمكن معها القول أنه لا توجد لدينا معارضة، بل فصائل ومراكز قوى لا تطمع سوى في أخذ حصتها، ومن طفا على سطح التحركات هي مجموعات مشتتة تطرح شعارات انفعالية، كثير منها عدمي ومتطرف، وهي لا تطرح بديلا متكاملا لما هو قائم.
ما الذي قلب أوضاعنا هكذا رأسا على عقب؟ ونحن الذين كنا نتغنى قبل شهر واحد فقط في الانتصار الذي تحقق في معركة سيف القدس، وفي بطولات شعبنا من المسجد الأقصى إلى باب العامود والشيخ جراح وسلوان وصولا إلى بيتا وبيت دجن ومعركة الغضنفر ابو عطوان، ونتدارس أوجه الانتصار والإنجاز، فنختلف أو نتفق على تحليل المشهد، ولكننا لم نختلف على أن الشعب الفلسطيني حقق خلال المواجهات وحدة وطنية لا سابق لها، أزالت الحدود والفواصل بين تجمعاته المختلفة، وأعادت إبراز هويته الوطنية الجامعة في وجه مشاريع الأسرلة والتبديد والاقتلاع، كما أعادت للقضية الفلسطينية ألقها وحضورها في صدارة القضايا العربية والعالمية.
هل يمكن للتدخلات الخارجية، وبخاصة الإسرائيلية، أن تسبب لنا كل هذا الضياع والتيه، وأن تحرف بوصلتنا عن القضية الرئيسية؟ هذا وارد، ومن لا يتوقع مثل هذه المحاولات للتدخل والتاثير يكون ساذجا، ولكننا نعلم أن أية تدخلات خارجية لا يمكن لها أن تنفذ لنا من دون وجود صدوع وشقوق وعوامل تمكنها من التأثير.
وهل وقعت كل هذه التداعيات بسبب مقتل نزار؟ من دون التقليل من أهمية الجريمة المركبة (تعذيب واعتقال سياسي وتصفية معارض ومرشح للانتخابات وقتل خارج نطاق القانون)، من الواضح أن الحادثة المدانة مثّلت الشرارة التي فجّرت برميل بارود من الاحتقان والتراكمات. ولذلك فإن أية حلول ينبغي لها أن تذهب لمعالجة الجذور والأسباب العميقة لهذه التوترات التي لم تقتصر على أداء السلطة في الضفة، بل وقعت وتكررت في قطاع غزة من قبل سلطة حماس سواء باعتقال المعارضين أو تعذيبهم وحتى سحل بعضهم في الشوارع.
إذا جاز لنا أن نسمي مؤسساتنا السياسية بـ “النظام السياسي” وهو أمر فريد لأننا ما زلنا تحت الاحتلال فإن هذا النظام، الذي يشمل منظمة التحرير ومؤسساتها، والحكومة وأجهزتها، والفصائل، دخل في أزمة حادة منذ توقيع اتفاق أوسلو، ونشوء تعارضات بين منطق الثورة وحركات التحرر ومنطق السلطة والحكم، وما يترتب على ذلك من تباينات بسبب ظهور مصالح وامتيازات، هذه الأزمة تعمقت وتشعبت مع فشل مسيرة التسوية، وما تلاها من انقسام وأزمة داخلية، وتنصل إسرائيل من حل الدولتين، ومحاولاتها المحمومة لاختزال دور السلطة إلى دور الوكيل الأمني الذي تنحصر مهمته في حماية أمن إسرائيل، وتخليصها من أعباء المسؤولية عن الشعب الفلسطيني.
التنظيم الاجتماعي والإداري الداخلي الذي اتخذته السلطة وقدمته على أنه مؤقت وانتقالي، وعلينا واجب احتماله لأنه طريقنا نحو الدولة، بدا أنه مستقر وطويل الأمد بكل ما فيه من اختلالات، من تعطيل الانتخابات وتغييب السلطة التشريعية، وانحسار الحريات العامة، وضعف الرقابة على أداء السلطة والأجهزة التنفيذية، وتداخل صلاحيات الأجهزة الأمنية فيما بينها، وبينها وبين التنظيم، وانتشار الفساد والمحسوبية، وضعف القضاء، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة مع بروز مظاهر البذخ والإثراء غير المشروع، والنموذج الاقتصادي المشوّه الناشئ عن التبعية للاحتلال وتزاوج البيروقراطية مع رأس المال الكومبرادوري (الوكيل وغير المنتج)، كل هذا يتكرس مع تراجع مشروع التحرر الوطني وضعف أدواته وغيابه عن أجندات القوى السياسية إلا من باب ترديد الشعارات والأشكال النضالية المحدودة لرفع العتب.
أزمتنا الشاملة بحاجة إلى معالجة شاملة، وربما إلى خارطة طريق (رغم ما يثيره هذا المصطلح من ذكريات سلبية عن خارطة طريق الرباعية)، ويبدو أن أدواتنا التي استخدمت حتى الآن لحل أزماتنا، مثل حوارات القاهرة واجتماعات الأمناء العامين، لم تعد كافية لأن بعض أدوات الحل هي مشكلات في حد ذاتها، وقد بتنا بحاجة لأدوات وعناوين إضافية، مثل تلك التي عبرت عنها عملية تسجيل القوائم الانتخابية، أو الحراكات التي فرضت نفسها في الشارع، أو المجتمع المدني على اتساعه بما في ذلك الجامعات والنقابات العمالية والمهنية والبلديات، ولا ننسى بالطبع آلاف الكوادر المهمشة من مختلف الفصائل والتنظيمات التي دفعت الثمن الأكبر من سني عمرها في أيام النضال والكد والشقاء، لكنها انزاحت أو أزيحت في عهد قيام السلطة وبناء مؤسساتها، وفي المحصلة نحن بحاجة لمؤتمر وطني واسع التمثيل لا يكتفي بالخطابات المنمقة وإصدار بيان ختامي، بل تنبثق عنه لجان وفرق متخصصة، وتتولى تحليل كل عناصر أزمتنا، ووضع الحلول الناجعة لها.
وفي الطريق إلى مثل هذا المؤتمر ربما نكون بحاجة إلى هيئة وطنية من شخصيات اعتبارية، تحظى بثقة الجميع، وتتمتع بالنزاهة والقوة الأدبية التي تعطي لتوصياتها وتوجهاتها وزنا وثقلا ماديا ومعنويا، نحتاج إلى ما يشبه “لجنة حكماء” يسمو أعضاؤها فوق الحسابات الصغيرة والعارضة، ويضعون مستقبل الوطن والشعب نصب أعينهم، نحتاج بقوة إلى شخصيات مثل حيدر عبد الشافي وفيصل الحسيني ليساهموا في إخراجنا من هذا المأزق، فالشعب الذي أنجب هذين الكبيرين ليس عاقرا.
………………………..
* عضو المجلس الوطني الفلسطيني.