عودة للسلام الاقتصادي والدوران في الحلقة المفرغة

حجم الخط

بقلم:المحامي زياد أبو زياد

 

تحاول القيادة الفلسطينية بعد أكثر من عشرين عاما العودة الى الوضع الذي كان قائما قبل عام 2000 من خلال ما وصف بأنه تقديم قائمة مطالب ل “إعادة بناء الثقة ” مع إسرائيل، بعد أن كانت هذه القيادة قد رفضت في الماضي العودة الى مائدة المفاوضات إذا لم توقف إسرائيل الأنشطة الاستيطانية.
ولا بد أولا ً من القول بأن العشرين عاما الماضية أعطت إسرائيل أكبر فرصة لتكثيف الاستيطان وتوسيع المستوطنات وتطوير البنية التحتية للمستوطنات لتصبح جزءا لا يتجزأ من إسرائيل. والمستوطنات ليست فقط ما نشاهده من مناطق مبنية على الأرض وإنما تشمل المخططات الهيكلية للمستوطنات التي تضم مئات الآلاف من الدونمات إضافة الى إصرار الإسرائيليين على أن 60% من أراضي الضفة وهي المناطق المسماة C هي مناطق إسرائيلية ورصيد احتياطي لتطوير وتوسيع المستوطنات.
وثانيا ً فإن العشرين عاما الماضية شهدت تطورات اجتماعية ودينية وايديولوجية في إسرائيل عززت المشاعر القومية المتطرفة وأنتجت أجيالا ً جديدة من الإسرائيليين الذين يؤمنون ايمانا عميقا بأن التنازل عن أي جزء من أرض إسرائيل هو خيانة وهي أجيال لا تعرف إسرائيل إلا بحدودها الحالية وهي أجيال يتم تلقينها في المدارس واليشيفوت (المدارس الدينية) والجيش بأن هذه هي أرض إسرائيل.
فهناك واقع استيطاني جديد في الأراضي المحتلة وايديولوجي داخل إسرائيل لا يمكن التعامل معه بنفس عقلية السبعينيات على الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني. وبكلمة مختصرة لن يكون هناك في إسرائيل أي قائد يستطيع إخلاء ولو مستوطنة واحدة أو تمكين إقامة دولة فلسطينية. وأقصى ما تقبل به إسرائيل هو تحميل جهة إدارية فلسطينية عبء ومسؤولية إدارة الشؤون المدنية الفلسطينية بالمفهوم الأضيق.
أقول هذا وأنا أتابع ما يتردد هذه الأيام عن تقديم القيادة الفلسطينية قائمة مطالب لإسرائيل أطلق عليها اسم إجراءات بناء الثقة. ومن الواضح أن القيادة الفلسطينية بعد ما شاهدته من التطرف الذي مثلته إدارة ترمب تعتقد بأن إدارة الرئيس الجديد جو بايدن ستغير اتجاه البوصلة الأمريكية تجاه الفلسطينيين.
ومع أن المرء لا يستطيع أن ينكر التغيير الذي حدث وسيحدث خلال إدارة الرئيس بايدن إلا أن علينا أن لا نشطح ونطلق العنان لأحلامنا. فالرئيس بايدن محكوم بعوامل كثيرة وحسابات خارجة عن إرادته الشخصية تخضع لعوامل داخلية أمريكية وعلاقة ومصالح استراتيجية بين أمريكا وإسرائيل لا يجوز لأحد أن يغفل عنها وخاصة إذا كان في موقع القيادة.
والمتتبع للتحرك الأمريكي الأخير يلاحظ أن الإدارة الأمريكية ترسل رسائل واضحة جدا الى الإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء.
أول هذه الرسائل هو أن واشنطن تدرك بأن تركيبة الحكومة الإسرائيلية الحالية لا تتحمل أي ضغط ولذا فإن الإدارة الأمريكية تطمئن الحكومة الإسرائيلية بأنه ليست هناك أي مبادرة أمريكية بل ان كل ما في الأمر هو أن واشنطن ترغب أن ترى “حوار” ثنائي مباشر بين الإسرائيليين والفلسطينيين بدلا من أن يظل الطرفان يتبادلان الرسائل من خلال الإدارة الامريكية، وأن الإدارة الأمريكية تدعم هذا الحوار وسترعاه من بعيد.
وثاني هذه الرسائل هو أن الحديث لا يدور عن مفاوضات أو عن فتح ملفات كبيرة وإنما عن إجراءات لتعزيز المكانة السياسية والاقتصادية للسلطة الفلسطينية.
لقد تصفحت ما نشرته وسائل الاعلام عن قائمة المطالب الفلسطينية المسماة إجراءات بناء الثقة، ولكني لا أرى أي فرصة لإمكانية إعادة بناء الثقة بيننا وبين الاحتلال طالما أن العملية الاستيطانية مستمرة وطالما أن إسرائيل ماضية في سياسة التهجير والترحيل وهدم المنازل والاستيلاء على البيوت والأراضي في القدس والضفة والأغوار على حد سواء وطاما ان الاحتلال العسكري يجثم على صدورنا.
والملاحظ أن المفاوض الفلسطيني لا ينقل ما يقال له من الطرف الآخر، بل يظل يردد لوسائل الإعلام ولمن هم من حوله ماذا يتمنى هو أن يقول، حتى لو لم يجرؤ على قوله في الغرف المغلقة. والرسائل الأمريكية المذكورة أعلاه تؤكد دون أي لابس أو غموض بأن ما تسعى أمريكا لتحقيقه هو حوار إسرائيلي فلسطيني ينحصر في إطار مصالح رجال الأعمال والمال ويسعى لتحسين الوضع الاقتصادي للسلطة انطلاقا من الاعتقاد بأن معظم المهيمنين على السلطة هم من أصحاب المصالح الاقتصادية والمشاريع الاستثمارية وأن هذه العملية هي في الواقع تجسيد لما يسمى بالسلام الاقتصادي، والاعتقاد بأن تحسين الوضع الاقتصادي سيؤدي الى تحسين الوضع السياسي عملا بالمقولة الأكاديمية بأن السياسة والاقتصاد هما وجهان لعملة واحدة.
وللأسف الشديد فإن هذا التوجه قد يلقى ميلا ً في نفوس البعض من المنتفعين ماديا من ذلك، مع أن هذا التوجه يتجاهل لب الصراع العربي اليهودي في فلسطين منذ مطلع القرن الماضي وهو الصراع على الأرض. ويتجاهل الحقائق والعوائق المادية على الأرض والأيديولوجية في القلوب والعقول والتي وإن سمحت بتحسين الوضع الاقتصادي الداخلي فإنها مستمرة في نهب الأرض وتقويض الحلم السياسي.
وأخيرا وقبل الانتهاء من هذه العجالة أقول بأن علينا أن نتوقف بحزم عند مقولة تحسين الوضع السياسي للسلطة وربطه بتحسين الوضع الاقتصادي الزائف.
صحيح أن القيادة الفلسطينية هي في أسوأ وأدنى مستوى وصلت إليه فقد فشلت في انهاء الاحتلال وتحقيق الدولة، وهي قيادة انقسمت على نفسها وقسمت الوطن تبعا لذلك، وقد تراجعت مكانتها بين أبناء شعبها في شطري الوطن وبشكل خاص في رام الله بعد أن عطلت الحياة البرلمانية لأكثر من خمسة عشر عاما وعطلت مبدأ الفصل بين السلطات وأطلقت العنان لقمع الحريات وتكميم الأفواه لدرجة قتل المنتقدين والمعارضين. وزاد الطين بلة الإقدام على الغاء الانتخابات البرلمانية التي كان مقررا أن تجرى في أيار الماضي.
ويقينا أن أية إجراءات اقتصادية من جانب أمريكا أو إسرائيل لن تؤدي الى أي تحسين في المكانة السياسية للسلطة الفلسطينية. لأن تحسين المكانة السياسية للسلطة يتطلب تغييرا جذريا في بنيتها وفي أدائها، قائم على أساس إعادة الشرعية من خلال انتخابات حرة ونزيهة ولجم بعض الأجهزة الأمنية وحصر تصرفاتها في إطار مراعاة واحترام أحكام القانون وتثبيت سيادة حكم القانون.
ويخطئ كل الخطأ من يعتقد بأن تحسين المكانة السياسية للسلطة يمكن أن يأتي من خارجها.
لقد سبق أن رفضت القيادة الفلسطينية في الماضي الدخول في متاهة ما يسمى بالسلام الاقتصادي وعليها الاستمرار في هذا الرفض قولا ً وفعلا، ولقد ثبت بالدليل القاطع أن اية اتصالات أو حوار أو مفاوضات ثنائية بين إسرائيل والفلسطينيين لن تؤدي الى أية نتيجة لأنها ليست مفاوضات متكافئة أو متوازنة وأن العودة للشرعية الدولية هي الطريق الذي يجب أن نتمسك به. وبالتوازي مع رفض الدخول في متاهات الإجراءات الثنائية الموهومة والتمسك بالشرعية الدولية لا بد من استنهاض الوضع الداخلي من خلال الإصلاح الحقيقي وتجنيد طاقات المقاومة الشعبية لتحقيق تطلعاتنا الوطنية. وهذا هو السبيل لتحقيق الحرية والاستقلال. وما دون ذلك هو دوران في نفس المكان وإعطاء المزيد من الوقت والفرص لتثبيت الوضع الاستيطاني الاحتلالي الحالي.