لم تنتظر "طالبان" نهاية فيلم الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، الذي بدأ عرضه قبل سنة ونصف السنة. فقد قاموا في هذا الأسبوع بالضغط على زر التقديم السريع، وتقدموا بسرعة نحو العاصمة كابول، ودفعوا واشنطن إلى زاوية ضيقة وخطيرة، تدير فيها الآن صراعا أخيرا في محاولة لمنع تكرار صورة النهاية المخيفة التي كانت في العام 1979.
في حينه احتل الثوار الإيرانيون المسلمون السفارة الأميركية في إيران.
في الشهر الماضي أطلق الرئيس الأميركي، جو بايدن، نسيما متفائلا عندما قال إنه يثق بقدرة الجيش الأفغاني وإن "احتمالية أن تسيطر "طالبان" على كل الدولة هي احتمالية ضئيلة جدا".
ومن المشكوك فيه أن تكون أقواله هذه تستند إلى معلومات استخبارية بعد أن نجحت "طالبان" في السيطرة في السابق على أكثر من 60 في المئة من أراضي الدولة، بعد فشل المحادثات معهم بشكل كامل والتي جرت حتى اللحظة الأخيرة في قطر.
الآن يمكن لبايدن أن يأمل فقط بأن الثلاثة آلاف جندي الذين أرسلهم إلى أفغانستان لإنقاذ طاقم السفارة والمدنيين الأميركيين الذين بقوا في الدولة سينجحون في مهمتهم دون تسجيل قتلى آخرين من أبناء الولايات المتحدة، في الحرب الأطول التي شنتها بعد الحرب العالمية الثانية.
خلال سنوات الحرب العشرين فقدت الولايات المتحدة آلاف الجنود واستنفدت حوالى تريليون دولار.
هذه هي الجولة الثانية التي تتخلى فيها الولايات المتحدة عن أفغانستان. في المرة الأولى ساعدت المتمردين الأفغان المجاهدين، في محاربة الاحتلال السوفييتي الذي بدأ في العام 1979 والذي انتهى عند انسحاب القوات السوفييتية في العام 1989.
عند هزيمة موسكو انتهت أيضاً ذريعة استمرار دعم المتمردين رغم أنها واصلت تزويدهم بالسلاح والتدريب بوساطة باكستان.
واشنطن بقيادة جورج بوش الأب أدارت ظهرها للدولة التي اعتبرت بالنسبة لها معقلا حيويا في الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفييتي، وخلال فترة قصيرة اندلعت حرب أهلية مدمرة وفتاكة بين رؤساء القبائل، استمرت حتى العام 1996، وهي السنة التي سيطرت فيها "طالبان" على الدولة وحولتها إلى أنقاض، وفرضت عليها "الإسلام المتطرف" ودمرت أسسها الثقافية، وطبقت فيها قوانين الشريعة حسب تفسيرها المتطرف وحرمت النساء من حقوقهن واحتضنت "القاعدة".
الآن لا يوجد لدى أي أحد أوهام حول الأضرار والدمار الذي ينتظر الدولة تحت حكم "طالبان".
السيطرة على كابول مسألة أيام. حكومة أشرف غالي (72 سنة)، وهو عالم الأنثروبولوجيا والاقتصادي الذي تلقى ثقافته في الولايات المتحدة، فقدت صلاحيتها. جيش أفغانستان، الذي يضم 300 ألف مقاتل، تم تدريبهم على أيدي الولايات المتحدة وحلفائها، استسلم أمام "طالبان". ضباط كبار وجنود ألقوا سلاحهم وهم يبحثون الآن عن مأوى. وفوق كل ذلك، هرب أكثر من 400 ألف مدني من البيوت بسبب المعارك الشديدة وأعمال القتل التي تنفذها "طالبان".
أوضحت واشنطن من ناحيتها أنه لا توجد لها مصلحة في التدخل في هذه المعركة الجديدة، وأنه يجب على حكومة أفغانستان أن تحل مشكلاتها بنفسها. وإذا كان هناك تدخل أميركي أو دولي في المستقبل فهو سيأتي فقط إذا أنبتت أفغانستان مرة أخرى تهديد الإرهاب الدولي، أو مست بشكل آخر بأهداف الغرب.
ولكن "طالبان"، التي راكمت تجربة سياسية ودبلوماسية خلال العقدين الأخيرين، لن تبقى كما هي منعزلة ومنبوذة.
أدارت قيادتها في السنة الأخيرة محادثات كثيفة مع روسيا والصين؛ ويجري ممثلوها اتصالات مع إيران، رغم الفجوة الدينية – الإيديولوجية فيما بينهما؛ وحصلت خلال هذه السنين على الدعم الاقتصادي من السعودية ومن دول أخرى في الخليج؛ وستأخذ حليفتها التقليدية باكستان لنفسها ثمار العلاقات التي أقامتها معها على مدى سنوات مقابل النفوذ السياسي.
حسب تصريحات المتحدثين باسم "طالبان"، هي تأمل في الحصول على الشرعية الدولية لنظامها، وبالتأكيد تجنب فرض عقوبات دولية عليها.
ربما هنا تكمن القناة المحتملة للحصول على تأثير معين في سلوكها تجاه مواطني بلادها. وإن كان من الأفضل أن لا نحبس الأنفاس وننتظر استعداداً لتأثير الصين وروسيا أو إيران على وضع حقوق الإنسان في أفغانستان.
سيدمر انهيار أفغانستان إنجازاً سياسياً آخر تفاخر به ترامب. "فنان الصفقات"، الذي ترك لبايدن إرثا غير محتمل.
الصورة الاحتفالية التي وقع فيها في شباط 2020 الاتفاق بين حكومة أفغانستان وقيادة "طالبان"، برعاية ووساطة أميركية وقطرية، صمدت لفترة قصيرة فقط.
حسب هذا الاتفاق، تعهدت الولايات المتحدة بالانسحاب من أفغانستان بشكل كامل؛ وسيطرح الطرف الأفغاني آلية تمنع استخدام أراضي الدولة كقاعدة للعمليات ضد أهداف أميركية؛ وستجري حكومة أفغانستان و"طالبان" مفاوضات بينهما حول حكم مشترك؛ في إطار هذه المفاوضات سيتم وضع شروط ومواعيد لتطبيق وقف شامل لإطلاق النار.
من هذه البنود الأساسية بقي فقط بند عملي واحد وهو أن الولايات المتحدة حددت 31 آب موعدا لانسحاب قواتها.
وقف إطلاق النار لم يتم تنفيذه من اللحظة الأولى؛ حتى أن المفاوضات بين "طالبان" والحكومة لم تبدأ؛ والوعد بمنع نشاطات مناهضة لأميركا من اراضي أفغانستان يجب على الولايات المتحدة أن تفحصه في القريب. كل ذلك لم يمنع ترامب من اعتبار هذا الاتفاق وثيقة سياسية مهمة جدا، يمكنه أن يؤسس قراراته عليها لسحب قواته من أفغانستان.
بايدن يمكنه فقط أن يكون شاكرا لأن ترامب هو المسؤول عن الاتفاق الذي يسمح له أيضا باستخدامه للهدف ذاته بالضبط.
لكن إزاء النهاية القاتمة لمغامرة أميركا في أفغانستان يمكن للمرء أن يسأل لماذا كان من الحيوي فعلها على مدى عشرين سنة.
جورج بوش الأب، الذي احتل أفغانستان في 2001، كانت له مبررات قوية أعطت الحرب الشرعية الدولية.
كانت الولايات المتحدة ملزمة بالانتقام لعمليات الحادي عشر من أيلول، وتدمير نظام "طالبان" الذي رفض تسليم أسامة بن لادن وتدمير البنية التحتية لـ "القاعدة".
ابن لادن نفسه تمت تصفيته في أيار 2011 في عهد الرئيس براك أوباما. ولكن الحرب ضد "القاعدة" استمرت في أرجاء العالم، حيث خفتت قوتها إزاء صعود "داعش"، الذي هو وليد "القاعدة".
في أفغانستان، للمفارقة، كان جزء من قوات "طالبان" شريكا في النضال ضد "داعش"، وبهذا خدموا المصالح الأميركية.
وبشكل مواز أيضا مصالح إيران التي خشيت من اختراق "داعش" لأراضيها.
هل كانت هناك حاجة إلى مواصلة الاحتفاظ بقوات أميركية كبيرة في أفغانستان من أجل مواصلة الحرب ضد "القاعدة" بعد العام 2011، أم أن الولايات المتحدة أصبحت أسيرة لسياسة لم يتجرأ أي أحد على تغييرها، رغم أنه منذ زمن كان من الواضح أنه لا يمكنها ضمان سيطرة الحكومة المحلية.
والأكثر أهمية من ذلك هو أن الانسحاب من أفغانستان وبعد ذلك من العراق يضع علامات استفهام أمام نموذج الاحتلال المباشر والطويل كوسيلة استراتيجية لتأمين مصالح سياسية. يبدو أن الولايات المتحدة توصلت إلى هذا الاستنتاج.
عن "هآرتس"