هيمنة المفهوم الأمني وأجهزة المخابرات ينفي الجوهر السياسي للصراع

زياد ابو زياد.PNG
حجم الخط

بقلم:المحامي زياد أبو زياد

 

جمعني والمرحوم القائد خالد الحسن “أبو السعيد” أسبوع بأيامه ولياليه في بون بألمانيا تبادلنا خلاله الحديث حول ما يخطر على البال وما لا يخطر على البال. وقبل أن أسترسل أقول بأن أبو السعيد القائد كان مثال المثقف والمفكر والمحلل السياسي المتمرس وكان أيضا الإنسان المتواضع الذي لا يُشعرك بأي مسافة بينك وبينه، خفيف الظل سريع الخاطر حاضر النكتة. وأعترف بأن أسبوع في حضرة أبو السعيد كان مدرسة وكان متعة في آن واحد.
سألته ذات ليلة عن علاقاتنا مع الدول العربية فقال إن الحكومات العربية لا تتعامل مع المنظمة ومع فتح إلا من خلال أجهزة مخابراتها لأنها لا ترى فينا ندا ً لها، وأضاف بأن أجهزة المخابرات لا تشتغل بالسياسة وأن كل ما يعنيها هو الأمن وأن ما يحقق لها الأمن هو تجنيد العملاء ولذلك فهي لا ترى فينا شركاء، بل تريد منا أن نكون عملاء وهذا ما نرفضه رغم أن بعضها استطاع أن يجد لنفسه بعض الأدوات والأطر للعب على الساحة الفلسطينية.
تذكرت أبو السعيد وأنا أتابع ما يجري على الساحة الفلسطينية والاقليمية وأرى أجهزة المخابرات هي التي تنشط على الساحة، وأسأل نفسي إن كانت هذه الأجهزة تعمل من أجل سواد عيوننا إيمانا ً واحتسابا، أم تحاول تجنيد العملاء وكم هي شاقة مهمتنا في التعامل معها ونحن نسير على الحبل المشدود بين ساحة العمل الوطني وساحة السقوط في العمالة وأرى الإغراءات والصعوبات على جانبي ذلك الخط.
وفي هذا السياق نرى رئيس ال CIA الأمريكية تزور المقاطعة وتلتقي القيادة الفلسطينية على أعلى مستوى، ولكننا لا نرى الرئاسة أو الخارجية الأمريكية سواء في المقاطعة أو في القرارات السياسية بواشنطن التي أحجمت حتى الآن عن اتخاذ القرارات المطلوبة لعودة العلاقات الى ما كانت عليه عشية صعود الرئيس السابق دونالد ترمب لسدة الحكم سواء إعادة فتح الممثلية الفلسطينية بواشنطن أو فتح القنصلية الأمريكية بالقدس الشرقية. وفي هذا السياق أيضا نرى أن العلاقات الفلسطينية الإسرائيلية تقتصر على العلاقة بين الأجهزة الأمنية على الجانبين وبين مكتب المنسق العسكري ونرى أيضا ً أن رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت منع وزير دفاعه بيني جانتس من زيارة المقاطعة لأنه بالرغم من أنه ينتمي للمؤسسة العسكرية والأمنية إلا أنه يحمل لقب وزير وهذا لقب سياسي قد يُفهم منه بدء الاتصالات بين الجانبين على المستوى السياسي وهو الأمر الذي ترفضه حكومة إسرائيل. وفي هذا السياق أيضا فإنني أسجل وبكل احترام وتقدير بأنه يتعامل معنا سياسيا على أعلى مستوى ممثلا ً بجلالة الملك عبد الله الثاني ورئيس وزرائه ووزير خارجيته رغم أن هذا لا يمنع وجود العلاقة الأمنية بين الأجهزة المختصة في البلدين وهذا أمر طبيعي ومألوف في العلاقات بين الدول الصديقة. وفي هذا السياق لا نرى دورا ً بارزا ً للسياسة المصرية، ولكننا نرى الدور الفاعل للمخابرات المصرية.
والذي دعاني للكتابة في هذا الموضوع الشاق المحفوف بالمخاطر والحساسية هو القلق من أن الإطار الذي يحكم علاقاتنا مع البلدين الرئيسيين اللذين مشكلتنا هي معهما وأقصد إسرائيل وأمريكا هو الإطار الأمني. وأنوه هنا بأن العلاقات التي تمت بين وزراء إسرائيليين وفلسطينيين كاللقاء بين وزيري الصحة والبيئة وقبلها بين وزيري المالية هي لقاءات لا ترقى لمستوى الاشتباك السياسي وإنما هي لقاءات أقرب الى التطبيع مع الاحتلال منها الى الاشتباك السياسي.
المشكلة بيننا وبين إسرائيل ليست مشكلة أمنية، بل هي مشكلة سياسية قوامها وجود احتلال للأرض الفلسطينية ينكر حقوقنا الوطنية الأساسية ويسعى لتكريس الواقع الاحتلالي القائم. وفي ظل هذا الواقع فإنني أجزم بأن ليس من واجبنا الاستمرار في تقديم التطمينات الأمنية للجانب الإسرائيلي وهو مستمر في زعزعة وقتل أمننا الوطني والشخصي ويتمادى في إجراءات نهب الأرض والثروات الطبيعية وفي ممارسة القتل والاعتقال.
لقد وجدت السلطة الفلسطينية كمرحلة انتقالية تنتهي بقيام الدولة وانتهاء الاحتلال في أيار 1999، ووجد التنسيق الأمني على أسس حددها اتفاق القاهرة (أوسلو – 2) ولكن ما يجري اليوم تحت مسمى التنسيق الأمني يختلف تماما عما ورد في الاتفاق المذكور. فدخول القوات الإسرائيلية الى مناطق “أ” مثلا ً كان يجب ألا يحدث أبدا ً إلا في حالات المطاردة الساخنة Hot pursue أي استمرارا لملاحقة التي بدأت بوقوع حادث خارج مناطق السلطة وفر الذين قاموا به الى مناطق السلطة، وبالتوازي إشعار التنسيق العسكري الفلسطيني بذلك. ولكن ما يحدث اليوم لا علاقة له بما أقره الاتفاق. وإخضاع مجمل العلاقة الفلسطينية الإسرائيلية لرجال الأمن وللمفهوم الأمني فقط بمعزل عن البعد السياسي للمشكلة هو تكريس غير واع للوضع القائم أي تجميد الوضع الإداري لسلطة إدارية تسمى حكومة وتتباهى بمسميات حكومية غير ذات مضمون وتكريس الاحتلال كوضع دائم.
قد تكون عوامل الضعف الداخلي الفلسطيني الناتج أساسا عن استمرار الانقسام من جهة وعن تعطيل الحياة الديمقراطية وتغييب المساءلة البرلمانية هو الذي أفرز الوضع الحالي ووضع مصير الشعب والقضية، مصير الأرض والإنسان، في يد بضعة أفراد يفتقرون للخبرة السياسية من جهة وللقاعدة الشعبية العريضة من جهة. وهذا هو وضع مأساوي تتحمل مسؤوليته كل مكونات الطيف السياسي الفلسطيني التي قبلت وتقبل باستمراره دون العمل وبكل الوسائل المتاحة أمامها لتصويبه. فنحن بحاجة للتحرر من هيمنة مفهوم الأمن على العمل الوطني وبحاجة لإعادة مأسسة مؤسسات الحكم وتعزيز دور المعارضة باعتبارها الضمان الوحيد للتصويب. فالمعارضة ليست مجرد تسجيل موقف على غرار ” قل كلمتك وامش ” وإنما هي ممارسة وإصرار وعمل حثيث.
إعادة الحياة الديمقراطية وإعادة الشرعية لمؤسسات الحكم هي الأمل الوحيد لاحتمال نجاح وقف عملية انزلاق المركبة السريع نحو الهاوية ونحن جميعا على ظهرها كخرفان العيد في طريقها الى المسلخ.