هل أصل الصهيونية يهودي أم بروتستانتي؟

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

بقلم: عبد الغني سلامة

يرى المؤرخ اليهودي وأستاذ التاريخ بجامعة مونتيريال، يعقوب رابكن، أن منبت الصهيونية بروتستانتي، وليس يهوديا.. ويقدم أدلته على ذلك. ورغم أني مطلع إلى حد ما على هذا الجانب من تاريخ الصهيونية، إلا أني تفاجأت من جرأة استنتاجه..
"معنى إسرائيل"، كتاب جديد من إصدار المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، "مدار"، ترجمة وتقديم الكاتب الفلسطيني حسن خضر.
يؤكد الكاتب أن اليهود لم يختبروا طوال تاريخهم سـوى حالات قليلة جدا وهامشية من حالات التبلور السياسي، مثل سلالة الحاشمونيين في القدس، ما يدلل على مدى هامشـية وضآلة دور اليهـود في التاريـخ السياسـي للعـالم.
فقد عـاشت الجماعات اليهـودية في كل القـارّات حياتـها الخاصـة مُكرَّسـةً لثقافتـها السـماوية، في معـزل عـن التاريـخ السياسـي للعـالم.
ويوضح أن اليهـود لم يُعـرَّفوا تاريخيا كعـرق، ولا كشـعب ينتسـب إلى بلد معين، أو إلى نظـام سياسـي، أو كشـعب يتكلّـم اللغـة نفسـها، بـل كجماعات يهوديـة لا يربطها سوى التزامها بالتـوراة.. وظل الأمر كذلك حتى القـرن التاسـع عشـر، حين قامت حفنـة مـن اليهـود المندمجين في أوروبا واخترعوا القوميـة اليهوديـة، عندئـذ وقـع الشـرخ الـذي لم يكـف عـن الاتساع مـع الزمـن، وقـع أولا بـين الهوية اليهوديـة والديانة اليهوديـة.
والواقع أن انعتـاق اليهـود الأوروبيين من الغيتو بدأ كعمليـة متواصلـة منذ نهايـة القـرن الثامـن عشـر، ما أتاح لهم الفرصة للمساواة والعيش كمواطنين، بعد إلغاء كافة القيود التي كبلتهم سابقا.. بيد أن انتكاسات عديدة تعرضوا لها في أوروبا وروسيا أدت إلى تراجع عملية الاندماج، بدءا من مذابح اليهود الروس، إلى الهولوكوست على يد النازيين..
ومع تبلور مفهوم القوميات الأوروبية من ناحية، وبداية العصر الكولونيالي من ناحية ثانية، ونضوج فكرة إنشاء جسم غريب في الشرق الأوسط موالٍ للتاج البريطاني، ويدافع عن مشروعها التوسعي، كل ذلك أدى في نهاية المطاف إلى نشوء الصهيونية، والتي لاقت قبولا وحماسا من قبل نخب يهودية، كانت حينها ضئيلة جدا من حيث نسبتها إلى أعداد اليهود، ولاقت معارضة شديدة من قبل أغلب التيار الديني التقليدي.
يسـتند رابكن في نقـده للصهيونيـة إلى فكـرة أساسـية وهـي منبتهـا البروتسـتانتي، أي ما سيعرف بالمسيحية الصهيونية، والتي نشأت كناتج عرضي لثورة الإصلاح الديني التي أدت إلى موجة من الحروب الدينية العنيفة، نجم عنها انقسام العالم المسيحي.
وهذا الانقسام، أوجد وعمّق خلافات كثيرة بين المذهبين الكاثوليكي والبروتستانتي في مسائل عديدة، من بينها الموقف من اليهود. (للمزيد راجع مقالتي "المسيحية الصهيونية"، "الأيام" 6-2-2017).
آمنت الكنيسة البروتستانتية الأصولية بأن قيام دولة إسرائيل مسألة دينية، باعتبارها تجسيدا لنبوءات الكتاب المقدس، وتشكل المقدمة لمجيء المسيح المخلص إلى الأرض، وبالتالي رأت أن من واجبها الدفاع عن اليهود، وعن حقهم بوطن قومي، ما أدى فيما بعد إلى بروز ما تسمى المسيحية الصهيونية، التي ساهمت بتغيير النظرة الأوروبية (أو جزء منها) تجاه اليهود.
وللتأكيد على منبت الصهيونية البروتستانتي يقول رابكن: إذا كان للصهيونية أصـل ديـني، فهو بروتسـتانتي وليـس يهـودياً.
فقد جـاء اليهـود إلى الصهيونيـة بعـد المسـيحيين بوقـت طويـل. وقـد شـجّعت ترجـمة الكتـاب المقـدّس إلى اللغـات المحلية، في فتـرة الإصـلاح الديـني، علـى الاعتقـاد بأن تجميـع اليهـود في الأرض المقدّسـة يجـب اعتبـاره حـدثاً فائـق الأهمية للمسـيحية. فمـن شـأنه أن يـؤدي إلى عـودة المسـيح إلى الأرض، ويُسـرّع نهايـة العـالم، والانتصـار النهائـي للمسـيحية، وعلامتـه اعتنـاق اليهـود بطريقـة جمعيـة للمسـيحية. (ص 71).
ويشدد رابكن على وجود اعتبـارات استـراتيجية وراء قـرار بريطانيا بفتـح أوّل قنصلية لها في القدس العام 1838. حيث بعدها بعام واحد، أرسلت كنيسة سـكوتلندا وفـداً إلى الشـرق الأوسـط وأوروبا الوسـطى، لغـرض تشـجيع اليهـود علـى الاسـتيطان في فلسـطين.
وفي العام 1841 نشـرت "كولونيال تايمز" اللندنية مذكرة إلى ملوك أوروبا البروتستانت تدعوهم لإعادة اليهود إلى فلسـطين، وتُذكِّر بأن المشـروع أكثـر مـن مجرد رغبـة دينيـة ورعـة، بـل هـو هـدف سياسـي أيضـاً. (ص 73).
كان اللـورد بالمرستون، الـذي شـغل منصـبي وزيـر للخارجيـة، ورئيـس للـوزراء، عراب التوجه الجديد. فبالرغـم مـن عـدم اعتبـاره متدينا، إلا أنـه كان الرجـل الـذي حـوّل الحركية الإنجيليـة إلى برنامـج جيـو - استـراتيجي يـرى في اليهـود رأس جسـر للمصـالح البريطانيـة في الشـرق الأوسـط.
منذ 1845 انكـب مكتـب المسـتعمرات علـى وضـع مسـوّدات خطـط لإنشـاء محميـة بريطانيـة سـتصبح دولـة عبريـة مسـتقلّة، رغـم أنه كان يقمع الحـركات الاسـتقلالية.
وقـد تضمنـت تلـك الخطـط طـرد السـكان المحليين لخلـق مـكان للعيـش لمهاجـري المسـتقبل. ومـن الواضـح أن هـذه النسـخة الأوروبيـة مـن الصهيونيـة، التـي صاغهـا رجـال الدولـة البريطانيون، سبقت الحركة التي أنشأها هرتسل في العام 1897. (ص 74).
ويؤكد الكاتب أنّ مشـروع هرتسـل مسـتلهم في الأسـاس مـن مصـادر بروتسـتانتية، فـ"هِشـلر"، الشـخص الـذي وقـف إلى جانب هرتسل كان مسـيحياً، وهو قـس السـفارة البريطانيـة في فيينـا، وقد مشـى معـه علـى الطريـق مـن البدايـة إلى النهايـة. وقـد شـكلا معـاً ثنائيـاً غريبـاً: "هرتسل"؛ صحـافي انتُزعـت منـه كل الصفـات اليهوديـة، وفكّـر في البدايـة في اعتنـاق جمعـي للمسـيحية مـن جانب اليهود، والارتماء في حضن الكنيسـة. و"هشلر"؛ مسـيحي وقس من البلاط الملكي، يحلم كل منهما بخلاص اليهود وبعث صهيون، وكل منهما سار في طريقه، وألقى بنا في جوف مفارقة تحاصر اليهود والمسيحيين. (ص 75).
المفارقة أن من اختـرع تعبيـر الصهيونيـة يهـودي نمسـاوي مندمـج يدعـى أناثن برنبـاوم في تسـعينيات القـرن التاسـع عشـر، مُسـتلهما التسـمية مـن صهيـون، اسـم إحـدى تـلال القـدس، وقـد تولى رئاسـة المنظمـة الصهيونيـة العالميـة، ولكنـه عـاد في وقـت لاحـق، ورفـض الأيديولوجيـا الصهيونيـة، والقوميـة اليهوديـة. والمفارقـة الأخرى أنّ من خلفـه في المنصـب ذاته بعـد قـرن مـن الزمـان، أبراهـام بـورغ، سـيبلغ بـدوره حـد إدانـة مفهـوم "الدولـة اليهوديـة" نفسـه، والتعبيـر بوضـوح عـن نقـد راديـكالي لا للحركـة الصهيونيـة وحسـب، ولكـن للمجتمـع الإسـرائيلي أيضـاً.
ما يؤكد أن الصهيونية في جوهرها مشروع سياسي أوروبي، ولم تمثل الحل الحقيقي للمسألة اليهودية، ولم تعبر عن آلام اليهود، ولا عن توقهم للخلاص.

-----------
جزء من مطالعتي للكتاب، ستنشر في مجلة "سياسات" العدد القادم.