«عرب الـ48»، «عرب إسرائيل»، «الفلسطينيون في الداخل»، «الوسط العربي في إسرائيل».. تسميات عديدة ذات دلالات مختلفة، تدل على مسمّى واحد: سكّان فلسطين الأصليّون، الذين تسنّى لهم البقاء فوق أرضهم، ضمن حدود الهدنة العام 1949.
الفلسطينيون في إسرائيل، هم «البقيّة الباقية» داخل الخط الأخضر، الذين تمكنوا من الصمود إبان النكبة، وبقوا في قراهم ومدنهم، بينما هُجّر قسرا أغلبية أهل البلاد.
كانت النكبة هي النقطة الفاصلة بين زمنين، فقد ابتُلي الفلسطينيون بنكبة سياسية وإنسانية في العام 1948، طالت جميع المستويات، الفردية والجماعية، الاقتصادية والثقافية.. والأهم أنها دمرت النسيج الاجتماعي، وقوضت أسس المجتمع الفلسطيني، وكادت تقضي على الهوية الوطنية الفلسطينية.
فالنكبة بقدر ما تعني فقدان الوطن، وتهجير السكان، هي أيضاً دمرت المؤسّسات الاجتماعية والثقافية والسياسية للشعب الفلسطيني، الذي تحول بين ليلة وضحاها إلى جموع من اللاجئين الهائمين على وجوههم في مشارق الأرض ومغاربها.. وبذلك تقوض الكيان السياسي للشعب الفلسطيني، وتهدّمت نخبه الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ودُمّرت مرافقه وعلاقاته وأسسه الاقتصادية، واقتُلع السكّان من بيوتهم وشُرّدوا في بقاع الأرض، ليعيشوا على هامش المجتمعات التي أقاموا بين ظهرانيها كلاجئين.
وبالرغم من شمولية النكبة وشدة وطأتها، فقد تسنّى لنحو 156 ألف فلسطيني الاستمرار في العيش في البلاد، عاشوا تحت الحكم العسكري، بكل تبعاته وأعبائه، وبما أن أعدادهم كانت قليلة، فقد تم عزلهم في مناطقهم ضمن «غيتوات»، تحت نظام الحكم العسكري، الذي صار يتحكم في معيشتهم في مختلف مناحي حياتهم، وأحياناً حتى في علاقاتهم الاجتماعية، بما فيها أمور الزواج والطلاق.
طوال العقد الأول من الحكم العسكري فُرض نظام منع التجوال على التجمعات العربية من مغيب الشمس إلى شروقها، وإطلاق النار على كل من حاول العودة من وراء خطوط الهدنة، والتصرف تجاههم كأنهم متسللون دون محاسبة. كما تم هدم معظم القرى العربية المهجرة.
مع استمرار محاولات الطرد والتهجير، والتي بلغت أوجها في مذبحة كفر قاسم، والتي جاءت استكمالا لمجزرة دير ياسين. كما هدمت منذ العام 1950 حتى العام 2018 حوالى 4450 مسكناً، وتكون بذلك قد هجّرت حوالى 30,000 نسمة تهجيراً داخلياً. كما اقتلعت أكثر من 700 ألف شجرة زيتون وبرتقال تعود ملكيتها لفلسطينيين، وهو أمر يفضح ادعاءات إسرائيل بالحفاظ على البيئة.
كما استولى صندوق أملاك الغائبين على مجمل الأراضي الفلسطينية، بموجب قانون صدر عن الكنيست العام 1950، وبذلك بات العرب الذين كانوا يمثلون حينها نحو 17% من سكان إسرائيل يمتلكون فقط 3% من الأرض (2% للسكن، و 1% كأراضٍ زراعية).
وكان إخضاع السكّان العرب إلى أنظمة الطوارئ بهدف تعميق الفجوة بين آثار وبقايا المجتمع السابق وبين المجتمع الجديد الناشئ، أي محاولة شطب آثار النكبة من الذاكرة الفلسطينية، وتذويب وتغريب ترسبات الثقافة الشعبية والوطنية التي كانت سائدة قبل الاحتلال، وصهرها في ثقافة المجتمع اليهودي، وتعميم وتثبيت أشكال الأنماط الحياتية الجديدة (اليهودية).
ومن اللافت أن من بين أول الإجراءات التي اتخذتها السلطات مباشرة عقب النكبة، وبعد الاستيلاء على منازل العرب، أنها قامت بنهب أي محتوى ذي دلالة ثقافية كانت تعثر عليه، مثل المكتبات الخاصة، الآلات الموسيقية، الأدوات التراثية، الصور، الوثائق.. وكانت تريد من ذلك تحقيق هدفين، الأول: أمام الرأي العام الإسرائيلي والعالمي محو أي صورة مشرقة للشعب الفلسطيني، تظهر مدى ثقافته وتحضره ومدنيته، أي تأكيد الصورة المزيفة التي رسمتها عن أهل البلاد بأنهم بدائيون. والثانية أمام الفلسطينيين أنفسهم، أي شطب وإلغاء الذاكرة الوطنية، وتثبيت القطيعة مع ما كان قائماً قبل النكبة.
وأيضاً عملت على عزلهم ثقافياً واجتماعياً عن شعبهم الفلسطيني ومحيطهم العربيّ؛ وقد ساهمت الأنظمة العربية من حيث لا تدري في إنجاح هذا المسعى، فكان ممنوعاً على فلسطينيي الـ48 دخول الأراضي العربية، وكان اللقاء معهم في العواصم الغربية موضع شك واتهام، وكانت العقلية الحزبية السائدة آنذاك تنظر لهم بريبة وعدائية.
وبذلك نشأ جيل كامل معزول تماماً عن محيطه العربي، حتى النتاج الأدبي والثقافي (العربي والفلسطيني) لم يكن مسموحاً له بدخول التجمعات العربية في إسرائيل.
كما عملت على إقصاء المواطنين العرب عن مؤسسات الدولة، بوصفهم خطراً على الأمن. وأنشأت سلطات محلية للبلدات العربيّة مرتبطة بالسلطة المركزيّة ارتباطا وثيقا، وفرضت الخدمة العسكرية على فئات وشرائح معينة دون غيرها.
مع نهاية الخمسينيات بدأت سياسة الدولة العبرية تتغير. فعلى الرغم من وعود حكومة إسرائيل لمن بقي من الفلسطينيين بالمساواة كمواطنين؛ إلا أن سياساتها الفعلية جاءت مناقضة لتلك الوعود، فعاملتهم معاملة الأعداء، واعتمدت سياسة فرّق تسد من خلال التعامل معهم كطوائف وأقليات، وحظرت أي نشاط جماعي، حتى لو كان اجتماعياً، أو ثقافياً لمنع تبلور قيادات عربية، أو هوية وطنية/ قومية.
واستمرت في محاولاتها لتفتيت وحدة المجتمع الفلسطيني، من خلال تفرقتهم والنظر إليهم ليس كمكون واحد، بل عدة مكونات، وتعزيز هذا الشعور لدى الفئات والطوائف، بجعلها تنظر إلى نفسها كمكون منفصل ومستقل، وإلى بقية المكونات كغرباء، بحيث يكون ولاء وتبعية الجميع للدولة وأنظمتها وثقافتها.
واعتباراً من سنة 1959 بدأت وطأة الحكم العسكري تخف تدريجياً على المواطنين العرب. ويعود هذا الأمر إلى عدة أسباب: فالاقتصاد الإسرائيلي شهد تطوراً ملحوظاً وكان بحاجة إلى الأيدي العاملة الرخيصة، وهو أمر تطلب حريّة تنقل أكبر للعمال العرب.
كما شهدت تلك الفترة تغيّراً في الاعتبارات الأمنية الإسرائيلية، فبعض أهداف الحكم العسكري كانت قد تحققت، منها النجاح في منع عودة اللاجئين عبر خطوط وقف إطلاق النار، والسيطرة على أراضي القرى المهجرة. فضلاً عن ذلك، فإن القيادات الأمنية زادت قناعة بأن العرب باقون ولن يرحلوا عن البلاد.
وبعد هزيمة حزيران 1967، احتلت إسرائيل بقية الأراضي الفلسطينية، إضافة إلى سيناء والجولان السوري؛ وبالتالي احتاجت إلى قواها الأمنية لإدارة الأراضي المحتلة حديثاً، ما سرّع في الإنهاء الفعلي لنظام الحكم العسكري في الداخل.