ثلاثة عوامل شكّلت أسباب انتفاضة أيار، الأول والأهم: تنامي ونضوج الشعور القومي، والتمسك بالانتماء العربي والهوية الفلسطينية، والصمود أمام مخططات الأسرلة والتغريب والتهويد والتدجين والإخضاع.. الثاني، استمرار الظلم والتمييز الإسرائيلي بحقهم، والتعامل معهم بوصفهم رعايا ومواطنين درجة ثالثة، وقد بلغت ذروة التمييز العنصري من خلال "قانون القومية اليهودي"، الذي أقره الكنيست عام 2018، وهو قانون يكرس ويشرعن كل الإجراءات التمييزية ضد العرب.. والثالث: سياسات الأجهزة الأمنية الإسرائيلية التمييزية ضد الفلسطينيين، مثل التغاضي عن تجار السلاح ومروجي المخدرات في التجمعات العربية، بل وتشجيعهم ودعمهم، الأمر الذي ساهم في تفشي الجريمة والفوضى في التجمعات العربية إلى درجة لم تعد تُطاق. إضافة إلى عربدة وتجاوزات المجموعات الاستيطانية المتطرفة المدعومة من الشرطة، والتي تستهدف العرب وتعتدي عليهم في كل مكان، وهذا أمر لم يعد ممكناً القبول به، بل هو تحدٍ وجودي.
ما كان ينقص لاكتمال المشهد هو هبّة القدس، والعدوان على غزة، وانتفاضة الضفة الغربية.. ولهذا التحول الكبير دلالات عميقة على مستقبل الصراع، والتسوية، وعلى إسرائيل نفسها.
ما حدث في انتفاضة أيار في الداخل هو نفض الرماد عن جمرٍ يجري إيقاده منذ 73 عاماً؛ حيث أتت الرياح من القدس وغزة والضفة الغربية فكشفت ما كان مخبأً.. ممارسات قمعية، قوانين عنصرية، إفقار، إذلال، تهميش، إغراق في المشاكل والمخدرات والسلاح، تفتيت للنسيج الاجتماعي، هدم بيوت، مصادرة أراض، مشاريع أسرلة ودمج وتهويد وعبرنة.. حتى بلغ السيل الزبى.
ظنت إسرائيل في لحظة نشوة أن سياساتها العنصرية والظالمة تجاه فلسطينيي الداخل ستنجح، وأنها ستدجن هذا الشعب، وتحتويه ضمن منظومتها الصهيونية العنصرية.. فأتت انتفاضة أيار لتظهر مدى غباء واستعلاء تلك السياسات.. ولتؤكد لها أنها كانت تعاند منطق الطبيعة، ونواميسها.
الآن، وقد عرفنا أبرز العوامل التي أوصلت إلى هذه النتيجة، لنناقش تأثيراتها وتداعياتها على مستقبل العلاقات بين المجتمعين، ومستقبل الدولة العبرية، ومستقبل التسوية السياسية، وبالذات حل "الدولة الواحدة".
ما ميز تلك الهبّة طابعها العنيف خاصة في الأيام الأولى، وربما كان هذا سبب تراجعها؛ فالصدامات المسلحة بين الأهالي والمستوطنين المتطرفين أمر ليس بالهيّن، ومن الصعب أن يدوم لفترة طويلة، فالأهالي فقدوا إحساسهم بالأمان، وصار الخروج من المنزل، والتنقل بين المدن وحتى داخلها محفوفاً بالمخاطر، والأمر ذاته ينطبق على السكان اليهود، وهو أمر لا يحتمله أي مجتمع، ولا تطيقه الدولة؛ إذ يضر بالاستقرار والهدوء الذي تفاخرت به إسرائيل، ويفضح زعمها أنها واحة الأمان في الشرق الأوسط، المضطرب والمشتعل بالحروب الأهلية. ويضر بصورة إسرائيل التي تحاول بثها في العالم، ويثبت فشل وخواء ادعائها بالديمقراطية، واستحالة الجمع بين الديمقراطية ويهودية الدولة، وبين الاستقرار والقمع، وبين المساواة والعنصرية..
وقد تركت تلك الأحداث جروحاً عميقة في الطرفين، وكشفت وهم التعايش المشترك، وأظهرت بجلاء صورة المجتمعين المنفصلين بفوارق طبقية واجتماعية واقتصادية وحقوقية كبيرة جداً.. وقد أثر هذا على دعاة التعايش من الجانبين، أي الذين كانوا يؤمنون بإمكانية تحقيق المساواة، ويطالبون بالعدالة، وحقوق المواطَنة، سواء من بقايا اليسار الإسرائيلي والقوى الليبرالية والعلمانية اليهودية، أو من الجانب العربي، بما في ذلك من أقنعتهم إسرائيل بأنهم أقليات معزولة عن العرب، وأن انتماءهم فقط للدولة؛ فقد أظهر المتطرفون اليهود كراهيتهم وعداءهم لكل ما هو عربي، من كل الطوائف والشرائح الاجتماعية، والذين بدورهم أظهروا معدنهم الأصيل، وعبروا عن انتمائهم العروبي وهويتهم الفلسطينية.
وهذا يضع حل "الدولة الواحدة"، و"دولة كل مواطنيها" أمام اختبار صعب، حيث غدت تلك الحلول أبعد منالاً، بعد انهيار حائط الثقة الذي كان بين الطرفين (حتى لو كان واهناً وضعيفاً)، لكنه قد يُحدث صدمة إيجابية في الوعي المشترك، بمعنى إدراك الطرفين خطورة القوانين العنصرية، وخطورة سياسات تهميش وإقصاء العرب، وخطورة الاقتتال الداخلي والصدامات العنيفة، وانعدام الأمن، وخطورة اتساع الهوة بين المجتمعين.. ما يولد وعياً مشتركاً بأهمية إلغاء القوانين العنصرية، ومدى غباء فكرة "يهودية الدولة"، وتخلفها عن روح العصر، وتناقضها مع إيقاعاته وتياراته الحداثية، وبالتالي ضرورة نبذ التعصب والتطرف والاستيطان، والتخلي عن فكرة تفوق العنصر اليهودي، وحقه بالهيمنة والتوسع.
لكن تشكل هذا الوعي سيحتاج فترة طويلة، وهو مسؤولية المجتمع اليهودي بالدرجة الأولى، بوصفه المسؤول عن إنتاج كل هذا التطرف والغلو واليمينية. وما لم يتبلور هذا الوعي، وتخرج أصوات يهودية منددة بسياسات الحكومات الإسرائيلية، وإذا ظلت إسرائيل مصرة على فكرة القمع والهيمنة، سيظل شبح الاقتتال الداخلي ماثلاً أمام الجميع، وبالتالي لا بد أن يخرج ويتجدد مرة ثانية وثالثة، وسيكون أهم عامل لتفكيك الدولة.
مع نشوة النصر الذي حققه الفلسطينيون، ومع حالة التوحد على جانبَي الخط الأخضر، والتي بلغت ذروتها في يوم الإضراب الكبير، تفاءل البعض حينها لدرجة الاعتقاد بأن هزيمة إسرائيل صارت مسألة أسابيع أو أشهر، وأن انهيارها صار وشيكاً جداً، وبالتالي يتوجب استثمار الفرصة وطرح مشروع الدولة الواحدة في كل فلسطين، أي دولة ديمقراطية دون صهيونية، وهي فكرة طرحتها حركة "فتح" في العام 1968، لكن باعتقادي أن موازين القوى لم تتغير لدرجة تسمح بإمكانية تحقيق هذا الهدف.. ولأن إسرائيل استطاعت استيعاب الصدمة، وتمكنت من فرض حلولها الأمنية، والتي وصلت درجة الانتقام.
ما يمكن تحقيقه، في هذه المرحلة، مواصلة النضال، والبناء على ما تحقق من إنجازات وطنية، وسياسية، وحقوقية، واجتماعية، وصولاً إلى بلورة قومية عربية تفرض نفسها على الدولة، وهذا يقتضي إلغاء قانون القومية اليهودية، وسائر القوانين العنصرية، ويتطلب اعتماد الوسائل السلمية، كنضال ضد نظام الأبارتهايد، لضمان انخراط كل فئات وشرائح وطوائف فلسطينيي الداخل، ولضمان ديمومته، ولتفويت الفرصة على إسرائيل للاستفراد والبطش بهم، وبالتالي خسارتهم لكثير من الإنجازات التي فرضوها على الدولة عبر نضالهم السلمي القانوني الطويل، أو استغلال إسرائيل أجواء الفوضى الأمنية والاقتتال الداخلي لدفع العرب نحو التشريد والتهجير، وفقاً لمخططات اليمين الإسرائيلي.
وهذا يحتاج أيضاً إلى النضال مع القوى اليهودية والإسرائيلية التي تؤيد الحقوق الوطنية والسياسية والاجتماعية لفلسطينيي الداخل. وهو نضال تراكمي طويل الأمد، أحياناً ضمن سقف قوانين الدولة، وأحياناً يتجاوزها.
وفي السياق ذاته، يتوجب على منظمة التحرير وسائر القوى الفلسطينية إعادة تعريف المشروع الوطني التحرري، بما يضمن إشراك فلسطينيي الداخل، ليكونوا في قلب المشروع.