فيما يمكن اعتباره تقييماً أميركياً لمسيرة سبع سنوات مضت من محاولات إدارة الرئيس باراك اوباما تحقيق اختراق على جبهة الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي أدلى وزير الخارجية جون كيري بمطالعة مهمة أمام المؤتمر السنوي «لصبان» الذي انعقد بداية هذا الأسبوع في معهد بروكنغز في العاصمة واشنطن. مطالعة الوزير كيري اتسمت بطابع أكاديمي، وإن كان مغزاها السياسي يذهب إلى تبرير فشل الإدارة الأميركية والرباعية الدولية في تحقيق رؤية الدولتين، والتنصل من مسؤولية المجتمع الدولي إزاء تحقيق السلام، رغم أن استمرار الصراع وتفاقمه يهدد مصالح كثير من دول العالم وعلى وجه الخصوص الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي. بطبيعة الحال، لا نتوقع ولا يتوقع أحد، أن يصدر عن السياسة الأميركية تقييم موضوعي بالكامل، لا يساوي بين الجلاد والضحية، أو أن تتخلى الولايات المتحدة عن تعهداتها التاريخية بحماية ودعم إسرائيل بكل أسباب القوة والتفوق، فأعمال العنف التي يمارسها الفلسطينيون ارهاب والسلطة الفلسطينية تمارس التحريض ولا تدين عمليات الارهاب.
وإسرائيل في نظر السياسة الأميركية من حقها أن تدافع عن نفسها، وهي دائماً في موقع الدفاع عن النفس حتى حين تشن حروبها المجرمة على قطاع غزة وترتكب المزيد والمزيد من الجرائم، وان المقاطعة وجهود نزع الشرعية عن إسرائيل وتمرير قرارات متحيزة في هيئات دولية لا يساعد في تحقيق الدولة الفلسطينية، على حد تعبير كيري.
كيري يرى أن على الفلسطينيين أن لا يحركوا ساكنا، وأن لا يقاوموا الاحتلال والاستيطان، لا بوسائل وأشكال مقاومة شعبية، ولا بالتوجه للعدالة الدولية، وان عليهم أن ينتظروا زحف المخططات الإسرائيلية التوسعية على حقوقهم ووجودهم.
ينتقد كيري السلطة ومسؤولين فلسطينيين من بينهم الرئيس محمود عباس الذين يتحدثون عن امكانية حل السلطة ووقف التنسيق الأمني ويحذر إسرائيل من دفع الأوضاع نحو هذه الوجهة لكنه لا يملك نصيحة يقدمها للفلسطينيين. تنطلق مطالعة الوزير كيري من تقييم عام دقيق، يقول بأن الاتجاهات الحالية في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني ستقود إلى حل الدولة الواحدة، حيث ان اسرائيل لن تكون قادرة على الحفاظ على طابعها الديمقراطي اليهودي في وضع كهذا. هذا التوصيف ينقصه اعتراف صريح من قبل الوزير كيري، من أن إسرائيل فعلياً تذهب في هذا الاتجاه الذي لا يعني تقويض حل الدولتين، ولكنه لا يعني الذهاب إلى خيار الدولة الواحدة لشعبين كما يعتقد الوزير الأميركي، ما سيتبقى من توصيف كيري هو أن إسرائيل تندفع نحو «التخلي» عن طابعها الديمقراطي نحو الدولة اليهودية، الأمر الذي ينطوي على فعل إسرائيلي يستهدف تهجير الفلسطينيين وتحقيق الدولة اليهودية العنصرية، دولة الابارتهايد.
قبل بضعة أسابيع كان بنيامين نتنياهو قد قال على مسامع الوزير كيري ان اسرائيل يمكن ان تلجأ إلى انسحاب أحادي الجانب من أجزاء من الضفة الغربية، يفضل ان يكون بالاتفاق مع الفلسطينيين. يضع الوزير كيري يده على الجرح حين يعترف بأن «العنف والاستيطان في الضفة الغربية والقدس الشرقية، وعمليات الهدم، يعرض قابلية تطبيق حل الدولتين للخطر وان الاستيطان يزيد من خيبة أمل الفلسطينيين».
الوزير الاميركي لا يرى «بأن الاستيطان يشكل مبرراً للعنف ولكنه يرى بأن النمو الاستيطاني المستمر يثير تساؤلات حقيقية حول نوايا اسرائيل على المدى الطويل وسيجعل من الانفصال عن الفلسطينيين أكثر صعوبة».
يسرد الوزير كيري كيف ان الفلسطينيين يمنعون من البناء والتطوير في المنطقة المصنفة (ج) كلها تقريباً، وهي التي تشكل على حد تعبيره، 60% من الضفة، حيث اعلنت اسرائيل معظمها كاراضي دولة اسرائيلية او كمجالس مستوطنات، بينما تتم المصادقة على البؤر الاستيطانية بانتظام، في حين هناك ازدياد في هدم المباني الفلسطينية.
باستثناء اتهاماته غير الموضوعية وغير المبررة للفلسطينيين فإن الوزير كيري يملك رؤية واضحة للوضع القائم الذي يشتغل عليه الاحتلال الإسرائيلي، والاتجاه الذي تندفع نحوه الأمور مستقبلاً.
والسؤال هو إن كانت هذه هي قراءة الولايات المتحدة وهي بالتأكيد قراءة الاتحاد الأوروبي وكل من له عيون ترى وآذان تسمع، وبأن الولايات المتحدة تخشى على إسرائيل من نفسها وأطماعها، فلماذا لا تبادر وهي قادرة على أن تقنع أو ترغم ربيبتها على التخلي عن سياسة تقود إلى تقريب آجال إسرائيل؟
لماذا لا تفعل الوكيل الأكبر لحماية إسرائيل، والذي يتحمل أعباء ضخمة من جيب المواطن الأميركي، لماذا لا تفعل ما يوفر عليها وعلى حليفتها تكاليف باهظة ستذروها الرياح يوماً؟
الولايات المتحدة ليست بريئة من دم وحقوق الفلسطينيين وقد استحوذت على إدارة شؤون العالم، ولا تزال تقرر مصائر الكثير من الشعوب، ومصائر الكثير من القضايا والملفات الكبرى.
يبقى على الوزير الأميركي أن يلاحظ الفارق الأخلاقي والأدبي بين ردود فعل الفلسطينيين على ما ورد في مطالعته، وردود فعل الإسرائيليين، يتسم الرد الفلسطيني بأدب الكلام ومراعاة الأصول الدبلوماسية في العلاقات، بينما يعقب عضو الكنيست عن البيت اليهودي موني غاب، بالقول إن آراء كيري منفصلة عن الواقع السائد في الشرق الأوسط، هذا الواقع الذي يثبت أن تقديرات كيري ونشاطاته السياسية لا تعدو كونها سلسلة من الأخطاء والفشل وان سيطرتنا على الضفة هي الضمانة الأمنية لإسرائيل، فهل لدى كيري لسان؟