ذاكرة تاريخنا الفلسطيني القديم والحديث المعاصر مليئة بمحطات تاريخية وأحداثًا مختلفة، نقف اليوم عند ذكرى 104 أعوام لوعد بلفور المشؤوم، وهو واحد من الأحداث المؤسفة للشعب الفلسطيني بالربع الأول من القرن العشرين خصوصًا مع قرب انتهاء الحرب العالمية الأولى، وجاء على خلفية قيام وزير الخارجية البريطاني "آرثر جيمس بلفور" بإرسال رسالة إلى اللورد "روتشيلد" يشير فيها إلى تأييد الحكومة البريطانية لإنشاء وطن قومى لليهود في فلسطين، وهي الرسالة التي عرفت باسم وعد بلفور، وذلك في 2 نوفمبر عام 1917م.
وعد بلفور هي "قصاصة ورق غيّرت التاريخ" وحولت حياة الفلسطينيين إلى جحيم، حيث كان لبداية اقتلاع المواطنين الأصليين من أرضهم وتحويلهم إلى ضحايا اللجوء والتشرد والقتل، وإحلال مكانهم "مستوطنين" يقطنون فيها بالقوة، هذا الوعد ما زال تبعاته إلى يومنا هذا من معاناة التهجير وسرقة الأراضي ومخططات الضم والاستيطان.
هذا الوعد يعتبر من أكبر مكاسب "الحركة الصهيونية" في القرن العشرين، إذ حاولت قبل ذلك مع الخلافة العثمانية الحصول على شرعية التواجد في وطن قومي على أرض فلسطين لكن تم رفضه، وأيضًا سبب آخر هو بعد الاحتلال البريطاني لفلسطين بدأ التطبيق الفعلي لهدف المؤتمر الصهيوني الأول في بازل (سويسرا) في 1897م، وهو من أهم أُسُس الفكر الصهيوني في القرن العشرين وفي مقدمتها السعي إلى إنشاء دولة لليهود، ويعتبر "ثيودور هرتسل" مؤسس الحركة الصهيونية.
نعم تتلاقى الرؤى والمصالح الاستعمارية الأوروبية عمومًا والإنكليزية خصوصًا مع النهج الاستعماري "للحركة الصهيونية" بإعطاء" وعد من لا يملك لمن لا يستحق"، إضافة إلى عدم تطرق مشروع بازل إلى العرب والفلسطينيين بل كان في غاية الوضوح وهو الانحياز لليهود على حساب العرب، وهذا مقصود كجزء من الفكر الاستعماري الذي يتعامل مع السكان الأصليين على أنهم منحطون حضارياً ولا قيمة لوجودهم على وجه الإطلاق، وهذا ما يمكن رؤيته بوضوح من خلال نص تصريح بلفور الذي تعامل مع السكان الأصليين الفلسطينيين على أنهم طوائف غير يهودية.
الوعد كان كاشف لنوايا الغرب وإرادتهم في تفريغ أوروبا من اليهود وحشدهم في أرض فلسطين، وهي أمور كانت مطروحة، ولكن بلفور هو الذي جعلها ذات وضوح علني فيه التزام من واحدة من أهم القوى الاستعمارية في عالم ذلك الوقت وأعني بها المملكة المتحدة "بريطانيا" ومن ثم تتابعت إعطاء الشرعية "للصهيونية" من عدة دول.
تداعيات جريمة بلفور ممتدة وليس هناك دليل أكثر من وجود ملايين من الفلسطينيين يعيشون في الشتات كلاجئين في دول عربية مجاورة أو مهجرين في شتى أرجاء المعمورة ويعانون من الغربة ويتطلعون للعودة الى وطنهم المحتل، فضلاً عن معاناة الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة.
هذا الوعد أدى الى أكبر كارثة إنسانية عرفها التاريخ البشري التي لا تزال آثارها الى أيامنا، بل هي بمثابة إعدام شعب كامل ودفن أحلامه ومستقبل أجياله عدا أنه انتكاسة سياسية وخطيئة القرن بل قرن من الظلم ينتظر العدالة.
تأتي هذه الذكرى في ظل حالة التردي والتراجع في البيئة العربية من غياب الإجماع وحالة التشرذم والانقسام بل الصراعات الداخلية في الدولة الواحدة، وفي ظل الخطوات المتسارعة للإدارة الأمريكية لتصفية القضية الفلسطينية بإعلان القدس عاصمة للكيان الصهيوني ومحاولة تصفية منظمة الأونروا الشاهد الوحيد على قضية اللاجئين وإسقاط حق العودة وفي ظل هرولة عربية للتطبيع مع الكيان الصهيوني والرغبة الجامحة لدى بعض الأنظمة العربية لإقامة علاقات معه.
كلمتي الأخيرة هي بعد أكثر من مئة عام من "سايكس_ بيكو" و "وعد بلفور" تأتي في وقتنا الحاضر محاولات لتمزيق المنطقة وتقسيمها إلى دويلات في خطة خبيثة ضد مفهوم الوحدة الوطنية للعالم العربي، وهذا ليس غريبًا في ظل ما نشهده من صنع أزمات وزرع المشكلات المختلفة في قلب العرب، فالذين أصدروا "بلفور" هم من شاركوا في ترسيم حدود الدول العربية وفقًا لمصالح قوى الاستعمار، وهم من يحاولون الآن إعادة ترسيم شرق أوسط جديد وفقًا لأطماعهم، ويخططون لأشغالنا في تصارع وتنازع على الحدود والوجود.
أما لأبناء الشعب الفلسطيني هذا الوعد يذكرنا بالحقوق والثوابت الفلسطينية، وضرورة تحقيق الوحدة الوطنية وإنهاء الانقسام، وضرورة إفشال مشاريع الاحتلال ومقاومته حتى اندحاره من أرضنا ومقدساتنا.