حين تتحول السوق إلى ساحة حرب: الصين وأميركا نموذجاً

BdsJ4.jpeg
حجم الخط

بقلم رجب أبو سرية

 

 

 

دعوة الحكومة الصينية مواطنيها قبل أيام لتخزين كميات كافية من المواد الغذائية الأساسية، أثارت تكهنات المراقبين، حول السبب، وإن كان ذلك يعود إلى عودة ظهور فيروس كورونا في البلاد، رغم استبعاد مثل هذا الدافع، لأكثر من سبب، فالفيروس لم يظهر على أي حال بشكل مقلق، كما أنه سبق للصين وأن تعرضت قبل غيرها لجائحة كورونا، بل كانت أول دول العالم التي تتعرض لتفشي الفيروس الفتاك، ولكنها سرعان ما احتوته، ولم تطلب من مواطنيها مطلع العام 2020، تخزين المواد الغذائية، بما يرجح بأن هناك احتمالاً أخطر، ويتمثل بكل صراحة ووضوح، بتصاعد التوتر بينها وبين الولايات المتحدة، خاصة فيما يسمى ببحر الصين، ذلك أن التوتر متصاعد بين الدولتين منذ فترة، بما يهدد باندلاع مواجهة بين الدولتين حول تايوان.
وفكرة الحرب ما بعد الحرب العالمية الثانية بين الدول العظمي، باتت مستبعدة، بعد ظهور الأسلحة النووية، ذلك أن حرباً ساخنة بين تلك الدول النووية قد تعني فناء البشرية بأسرها، والجميع يذكر كيف توقفت الحرب العالمية الثانية، عشية حصول الولايات المتحدة على أول سلاح نووي وكان عبارة عن قنبلتين صغيرتين محدودتي القوة بالنسبة لما لدى الدول العظمى من قنابل نووية حالياً، أطلقتا على كل من هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين، وأحدثتا قتلاً ودماراً مهولاً، كانت من نتيجته أن أعلنت اليابان الاستسلام فوراً.
ولهذا السبب، فإن كلا من الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي اللذين ورثا الدول العظمى التي كانت قبلهما وتحاربت فيما بنيها، من خلال تحالفين تقاتلا، وكان أحدهما مكوناً بالأساس من ألمانيا وايطاليا، والثاني من بريطانيا وفرنسا، قبل أن تنضم أميركا للحلفاء في التحالف الثاني، واليابان التي وجدت نفسها وكانت تحتل قبل الحرب الصين وكوريا، في حرب مباشرة مع الولايات المتحدة، لذا لم يدخل الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، رغم الصراع حول النفوذ العالمي، بل والتناقض الأيديولوجي في حرب ساخنة، بل في حرب سميت بالباردة، تجنباً لحرب نووية، وإن كانت الحرب الباردة قد شهدت حروباً إقليمية ساخنة، كان عادة كل من الاتحاد السوفياتي أن يدعم طرفاً فيها، مقابل الولايات المتحدة التي كانت تدعم الطرف الثاني.
لم ينته الصراع بين الدول العظمى خلال الحرب الباردة، حيث انقسم العالم بأسره ما بين معسكرين، أحدهما تقوده الولايات المتحدة، حيث امتد نفوذها إلى أكثر من نصف العالم، كذلك تزعم الاتحاد السوفياتي المعسكر الاشتراكي وحركات التحرر، حيث امتد نفوذه إلى نصف العالم، وكانت أوروبا على سبيل المثال منقسمة ما بين غرب يتبع المعسكر الرأسمالي، وشرق يتبع المعسكر الاشتراكي، وكانت قارة آسيا وأفريقيا ساحة صراع بين المعسكرين، فيما كانت أميركا الجنوبية بأطرافها جزءا من المعسكر الشرقي فيما معظمها ضمن المعسكر الغربي.
وما أن وضعت الحرب الباردة أوزارها، مطلع تسعينيات القرن الماضي، حتى ظن العالم كله، بأن الولايات المتحدة قد تزعمت العالم كدولة منفردة وحدها، وذلك بعد أن تفكك الاتحاد السوفياتي، وسقطت الأنظمة الشيوعية التي كانت تحكم شرق أوروبا تباعا، لكن الصين بقيت على نظامها، لكن مع إصلاحات داخلية، رغم أنها لم تكن تتبع الاتحاد السوفياتي، بل كانت نداً آخر تشق طريق اشتراكياً مختلفاً ومستقلاً عن زعامة الاتحاد السوفياتي.
مع مرور ثلاثة عقود، بدأت تظهر تحديات أمام الزعامة الأميركية المنفردة للعالم، فروسيا رغم أنها لم تعد للنظام الشيوعي، إلا أنها بدأت تعود كقوة سياسية عالمية، فيما الصين حققت نمواً اقتصادياً عظيماً، وكوريا الشمالية بقيت شيوعية وحصلت على القوة النووية، وهكذا فإن العالم لم يعد في جيب الولايات المتحدة، حتى أن أوروبا سارت على طريق وحدتها الداخلية عبر الاتحاد الأوروبي، بعد اختفاء التهديد الشيوعي، الذي كان سبباً في تبعيتها خلال الحرب الباردة للولايات المتحدة، لذا فإن من جعلت منه عدواً قادت العالم إلى مشاركتها في الحرب ضده، نقصد ما أطلقت عليه «الإرهاب» الإسلامي خاصة، لم يعد كافياً لتجر الولايات المتحدة العالم وراءها في الحرب ضده، وها هي بعد 20 سنة من الحرب في أفغانستان والعراق تخرج منهما، لذا فإن الولايات المتحدة، تجد نفسها في مواجهة كثير من الدول في ساحات التنافس الاقتصادي، تتقدمها الصين، وفي ساحة المواجهة السياسية، حيث تقف روسيا في وجهها، إضافة إلى تحديات عسكرية وسياسية، أقل حدة، تتمثل في كوريا الشمالية وإيران وغيرهما.
بعد الحرب على الإرهاب، حاولت أميركا في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب أن تخوض المواجهة مع ما اعتقدته الحلقة الأضعف، وهي كوريا الشمالية، لكنها سرعان ما ابتلعت لسانها، وما أن دخل جو بايدن البيت الأبيض، حتى حدد روسيا كعدو، فيما لم يستطع أن يهز كتفيه تجاه التحدي الصيني، ورغم أنه طمأن العالم بقوله بأنه غير قلق من احتمال نشوب نزاع مسلح مع الصين، قبل أيام، إلا أن بلاده التي تثير الصين بحديثها حول اضطهاد الأيغور، والأقلية العرقية في التبت، كذلك ما تعتبره تقويضاً صينياً للحكم الذاتي في هونغ كونغ، وما تعهدت به من دفاع عن تايوان، يثير مخاوف المراقبين، الذين يدركون حجم التحدي الاقتصادي الصيني الذي يضغط على أميركا.
أما الصين، فهي تعلم أيضا بأن نموها الاقتصادي وانتشار بضائعها وسلعها في كل العالم، يثير الولايات المتحدة، التي قد تبدأ في القبض على خاصرة الصين الضعيفة، ألا وهي كونها أكبر مستورد للمواد الغذائية في العالم، مع مليار ونصف إنسان تقريبا، في حين أن أميركا بالذات وكندا واستراليا هي الدول المصدرة للمواد الغذائية للصين.
والصين شهدت مجاعة أودت بحياة عشرات ملايين البشر خاصة في الأرياف، وذلك في خمسينيات وأوائل ستينيات القرن الماضي، مع العمل بنظام الملكية الجماعية للأراضي، لذا فهناك مخاوف وجيهة تقول بأن السوق الذي يشهد التنافس بين الدولتين العظميين، قد يتحول إلى ساحة حرب ساخنة، لا أحد يعلم مداها، بل ربما الصراع حول العالم، قد يبتكر وصفة جديدة للحرب، ما بين ساخنة وباردة، أو حربا أخرى لا نعرف لها وصفا الآن، لكن لا يمكن للتنافس الاقتصادي بين الولايات المتحدة والصين، أن يستمر هكذا دون محاولة أحد الطرفين أو كلاهما، أن يوقف مسيرته بالقوة والإكراه، وهو نفس الدافع الذي تسبب بكل الحروب الكونية السابقة.