عن أولويات التطعيم وتعزيز المناعة

3342.jpg
حجم الخط

بقلم هاني عوكل

 

 

 

لا يزال العالم متأهباً تجاه تداعيات فيروس "كورونا" الذي انتشر منذ اكتشافه أواخر العام 2019 كما تنتشر النار في الهشيم، وسط تحركات دولية لمنع تفشي هذا الفيروس الذي تحور وأنتج سلالات جديدة من الفيروسات التي حصدت أرواح الآلاف من البشر.
كلما يحل الشتاء تضع الحكومات يدها على قلبها خوفاً من عودة انتشار "كوفيد - 19" بعد أن سعت بالفعل للحد من مخاطره بفرض الإغلاقات والإجراءات الوقائية وتحفيز المجتمعات على أخذ اللقاحات. غير أن بعض الإشكالات ظهرت مع تقاعس الحكومات والمجتمعات عن التعاون للحد من انتشار الفيروس.
صحيح أن العالم انشغل بهذا الوباء الذي طاله في كل مكان، لكن الكثير من الحكومات ربطت بين حصول أكبر عدد من المواطنين على اللقاحات، وبين تخفيف الإغلاقات وتنشيط الحركة الاقتصادية والتجارية والاجتماعية، بهدف تقليل الخسائر بسبب تداعيات "كورونا"، وكذلك من أجل تخفيف الأعباء المعيشية على الناس.
إجمالي الجرعات المعلنة من اللقاحات وصل إلى أكثر من 7.5 مليار جرعة في العالم، حسب تقرير يتتبع اللقاحات على الشبكة العنكبوتية، وسيصل عدد الملقحين بالجرعتين إلى حوالى 70% من عدد سكان العالم في غضون الأشهر الثلاثة المقبلة، بينما بدأ بعض الدول إعطاء الجرعة الثالثة المعززة لمواطنيها الذين تلقوا الجرعتين من اللقاح.
مع ذلك، لا يعني الحصول على الجرعتين لدى الغالبية من البشر حول العالم أن فيروس "كورونا" في "الباي باي"، لكن ذلك يقلل إلى حد كبير الخسائر البشرية، والأصل في حد انتشار الفيروس يأتي بتضافر الجهود بين الحكومات والمجتمعات لمنع تفشي الفيروس وكذلك تحوره.
قبل الحديث عن الجهود المطلوبة، يلحظ أن نسبة معقولة من الناس لم تحصل على اللقاح لأكثر من سبب، الأول مرتبط بتأخر وصوله خصوصاً إلى الدول الفقيرة، والسبب الثاني يتعلق بقناعة لدى الأفراد أن مخاطر اللقاح أكبر من فوائده، وأنه يمكن المرور من هذا المأزق بسلام.
حسب تقديرات مؤسسات صحية دولية أن غالبية المرضى المصابين بفيروس "كورونا" في المستشفيات لم يحصلوا على التطعيم، وما يزيد الطين بلة بارتفاع أعداد الحالات المرضية أن بعض الدول استعجلت تخفيف الإغلاقات وغضت الطرف عن الإجراءات الوقائية لتسهيل عودة الحياة الطبيعية كما كانت قبل انتشار الفيروس.
النتيجة أن أوروبا تدخل الآن في موجة جديدة من انتشار "كورونا"، وفي المقابل تعيد بعض الحكومات فرض الإغلاقات والتشديد باتباع السياسات الاحترازية لكبح جماح تفشيه من جديد. ومع الأسف تخرج التظاهرات التي تندد بفرض هذه الأوامر، وترفع لافتات عريضة ترفض أي توجهات بشأن إلزامية التطعيم.
لا يمكن إغفال أن اللقاحات حدّت بشكل كبير من انتشار الفيروس، بدليل أن معدل الإصابات والوفيات في تدنٍ مستمر، لكن كان يمكن تقليل هذه الكلف أكثر لو أن الحكومات اتبعت منهجاً وقائياً طويل المدى بخصوص فرض الكمامات في الأماكن العامة واتباع سياسة التطعيم الإلزامي، أو زيادة الوعي بشأن أهمية الحصول على التطعيم ضد "كورونا".
ثمة استهتار كبير لدى بعض الأفراد الذين يضربون بعرض الحائط كافة الإجراءات الوقائية الصحية، ويمتنعون عن أخذ التطعيم تحت حجج وقناعات واهية وغير واعية متعلقة بنظرية المؤامرة وتأثيرات اللقاح على الصحة البدنية. قد تكون هناك بالفعل تأثيرات جانبية من أخذ اللقاح، لكنها أقل بكثير من كلفة الإصابة بالفيروس دون التطعيم.
لقد ثبت أن اللقاحات لم تمنع انتشار العدوى بين الناس، لكنها بالتأكيد قللت الخسائر البشرية ومنظمة الصحة العالمية قالت في تقاريرها الدورية إن التطعيمات قللت من انتشار العدوى بنسبة 60%، إنما انخفضت هذه النسبة إلى الثلث تقريباً مع سرعة انتشار المتحور "دلتا".
هذا يعني أن الأنظمة الصحية ستبقى مضغوطة ومشغولة بهم "كورونا" ومتحوراته، وهذه الأولوية تأتي على حساب باقي الأمراض الأخرى المزمنة وغير المزمنة، ما لا يصب أبداً في مصلحة المريض وسجله الصحي، ويؤثر أيضاً على القطاع الطبي وقدرته على الاستجابة في أوقات الأزمات والظروف الطبيعية.
الآن تنوعت الحروب والتحديات التي تواجه البشرية، ولم يعتقد أحد للحظة أن فيروسا مجهريا يمكنه أن يفعل كل هذه المفاعيل، والله أعلم إذا كانت هناك فيروسات ومتحورات جديدة، لكن ما ينبغي إدراكه عند كافة الأفراد أن المعركة مع الوباء تتطلب وعياً كافياً لمواجهته.
بالإضافة إلى الاحتياطات الصحية، يمكن القول إن أهم معركة مع "كورونا" وسلالاته مرتبطة بتعزيز المناعة لدى الإنسان وتغيير الكثير من العادات الاستهلاكية وغير الاستهلاكية التي تؤثر في صحته. نحتاج إلى الوقوف الدوري على حالتنا الصحية بإجراء الفحوصات الدورية وممارسة الرياضة بشكل يومي واختيار الغذاء الصحي و"الأخضر".
المعركة الحقيقية مع "كورونا" لا تنتهي بانتهاء الحصول على اللقاح والجرعات المعززة، وإنما باتباع ثقافة صحية وسليمة وبعيدة عن ضغوط الحياة ومشكلاتها. مثلما هناك مرحلة وصلْ مع العمل والمحيط الاجتماعي وشبكة العلاقات الإنسانية، ينبغي أن تكون هناك أيضاً مرحلة قطعْ مع هذا العالم، للابتعاد عن الأجواء المشدودة ومشاغل الدنيا وهمومها.
باختصار، "كورونا" يبحث ويستوطن في الجسد الضعيف ويتحور مع الوقت حتى يتغلب على الإنسان. وعلى الأخير أن يكون حذراً مع هذا العدو الصغير جداً في حجمه والكبير جداً جداً في تأثيره. الوعي والتحوط الصحي والالتزام بأخذ اللقاح زائد تعزيز المناعة وتقليل التوتر قدر الإمكان، كلها عوامل تحرم الفيروس من الإقامة الدائمة في جسم الإنسان.