أعلنت حركة حماس المتنفذة في غزة رفضها المشاركة في انتخابات مجالس القرى والبلديات الفلسطينية، التي حددت رام الله موعد مرحلتها الأولى في الحادي عشر من الشهر الجاري.
من نتائج عدم التراجع عن هذا الموقف، ضياع فرصة لاستدراك وسيلة من وسائل رأب بعض الصدوع الداخلية، وإهدار العمل بمقولة إن ما لا يدرك كله لا يترك جله. وتكمن أهمية المحليات في هذه الحالة في أن الصراع الممتد في الرحاب الفلسطينية، أجبر المجتمع على التعلق بوشائجه التقليدية، كالقبائل والعائلات والعصبيات الجهوية.
ضمن أدوات الدفاع الذاتي عن الوجود.. وكان من تداعيات هذه الظاهرة تعطيل الانخراط في مقتضيات الاجتماع السياسي الحداثي، القائم على التعددية السياسية رغم توافر قنواتها ومظاهرها، وأهمها انتشار التنظيمات الحزبية تحت تسمية الفصائل.
من قراءة السوابق، تبدو الانتخابات المحلية المناسبة الأكثر إفصاحاً عن ديمومة تأثير الروابط الاجتماعية الموروثة.. ففي غضونها تتجلى نداءات هذه الروابط والأطر بلا مواربة وتكاد القوى الحزبية أن تتحول إلى قبائل سياسية. ولا أدل على ذلك من استنفار المرشحين البلديين لعائلاتهم ومناطقهم جنباً إلى جنب مع الاستناد إلى أحزابهم وفصائلهم. ولتبصر هذا المشهد ربما احتاج المتابع إلى معرفة الفارق بين التعدديتين الاجتماعية الأولية المطبوعة وتلك السياسية المصنوعة غير الإرثية. وهما في الحقيقة غير متساويتين من ناحية المبنى والمعنى.
فالتعددية الموروثة تتأسس على ما تستشعره الجماعات من تباينات نسبية في ما بينها لجهة الدين أو المذهب أو القومية أو الأصول الإثنية والعناوين الجهوية.. بينما تقوم التعددية السياسية على ذرع هذه التباينات وبواعثها طولاً وعرضاً وعمقاً داخل الجماعات، وتخطي الحواجز والأطر التي تنصبها بين قبائل المجتمع وطوائفه ونحله..
ويؤدي هذه الوظيفة التكاملية أو التجميعية بامتياز، القوى والأحزاب السياسية والتنظيمات المدنية المصلحية الاختيارية غير الإرثية، ذات البرامج العابرة للمكونات والمعطيات الأخرى. فإن حدث ذلك، من خلال صيغ تلقى التوافق والإجماع العام، بتنا بصدد الدولة الوطنية، التي يدعوها البعض بدولة كل مواطنيها.
أما ترجمة الولاءات والانتماءات الأولية للجماعات في شكل قوى وأحزاب تنافس على الحكم والسياسة، فإنها تفضي إلى تأبيد هذه الولاءات وقد تعرض المجتمع للتشظي والبعثرة. النظام الذي ينشأ عن هذه الترجمة، يأخذ هيئة أو صورة عامة تبدو فيها الجماعات وقد اصطفت إلى جوار بعضها بعضاً من دون تفاعل أو تداخل حقيقي في ما بينها.
الأمثلة والنماذج بهذا الخصوص كثيرة، ومن تدبرها نعثر على نظم تصدعت وأدى التدافع المصلحي «ما دون الوطني أو القومي» داخلها، إلى الذهاب بريح الدولة كلها. حدث هذا في يوغسلافيا السابقة بالعنف وفي تشيكوسلوفاكيا بالتراضي السلمي.
التعددية المستندة إلى برامج خالية من دسم الانتماءات الأولية، هي الأقدر على الأخذ بيد الجماعات إلى رحاب مستقبلية يتعايش فيها الجميع في كنف دولة وطنية جامعة.. دولة لا يستصرخ فيها الفرد بني عشيرته الأولى أو قوميته أو ديانته أو طائفته أو منطقته ويلوذ بهم، حينما يرى أن مصلحته الذاتية الضيقة تستدعي ذلك.
غاية القول إن تسييس «المصفوفة الاجتماعية»، من دون آليات ومداخل تؤدي إلى التقاطع والاتصال والتفاعل المعقد بين وحداتها، يرسخ التمايز داخلها ويقيم نظاماً قلقاً ضعيف التماسك.
وهنا تبرز خصوصية الحالة الفلسطينية. ففي سياق الصراع الضروس، وضعف القدرة، حتى لا نقول انعدامها مطولاً، على التحكم في سيرورة التطور السياسي الدولتي، لاذ الفلسطينيون بأطرهم الأولية، ومنها البلديات والدواوين العائلية والقضاء العشائري، التي مثلت إحدى أهم أدوات الحفاظ على الأواصر المجتمعية الذاتية، وإحدى أبرز قنوات التعبير السياسي.
في نماذج الاجتماع السياسي المعتادة، يفضل الفصل ما بين العمل البلدي الخدمي عند قاع المجتمع، وبين الممارسة السياسية الحزبية عند القمة.. ولكن الخلط الفلسطيني الفائض بين البلدي المحلي والسياسي العام يجد تبريره وتفسيره في السياق التاريخي الاجتماعي الثقافي لهذه الحالة.
والحق أن تقديرنا لأسباب استمرار هذا الخلط، يحول دون التحفظ عليه بالمطلق.. إلا أنه من الضروري السعي إلى استغلاله بشكل «حميد» في كسر جمود الانقسام السياسي. وقد يكون التوافق على الانتخابات المحلية من السبل المتاحة أمام هذا السعي.
عن “البيان الاماراتية”