على متن قوارب الموت قرر الشابان شادي النقلة وأشرف بلاطة، خوض غمار طريق الهجرة، هرباً من الواقع المرير الذي يُعانيه قطاع غزة منذ أكثر من 14 عاماً بسبب الحصار الإسرائيلي والانقسام الفلسطيني.
وعلى الرغم من المخاطر المحدقة برحلة الهجرة، قرر الشابين النقلة وبلاطة الذهاب إلى المصير المجهول على البقاء في مجتمعٍ لا يتوفر به أدني مقومات الحياة الكريمة، كحال الآلاف من الشباب الذين غامروا بزهرة شبابهم في الغربة بحثاً عن لقمة العيش، وفرصة عمل تؤمن لهم مستقبلهم بعيداً عن وطنهم الذي لم يبقى لهم فيه سوى الحروب والاضطهاد والظلم والفقر والانقسام.
لكّن الرياح لا تأتي دائماً بما تشتهي السفن، فكان طريق الهجرة الغير شرعية سواء عبر البحر أو البر نكبةً ثانية عانى منها المهاجرين من ويلات وكوارث دفع بعضهم ثمناً لها أرواحهم، حيث كان آخرها حادثة غرق مركب على متنه 10 شبان فلسطينيين من غزّة في 5 نوفمبر الماضي، ما أسفر عن وفاة شابين وفقدان آخر ونجاة الآخرين.
شهادات حية
شادي النقلة "30عاماً" شاب فلسطيني حاصل على شهادتين جامعيتين في مجال الإعلام الرقمي والتربية الخاصة، قرر الهجرة من غزّة إلى أوروبا بحثاً عن حياة كريمة، لكّن عدة عقبات وقفت عائقاً أمامه، وكانت بلجيكا محطة استقراره بعد معاناة وويلات".
وقال النقلة لمراسلة وكالة "خبر": "غادرت قطاع غزّة عبر معبر رفح بعد فشل حراك "بدنا نعيش" في 12/3/2019، والذي كان أبرز مطالبه توفير فرص عمل للشباب، ثم انتقلت من القاهرة إلى تركيا، ومكثت فيها 3 أشهر، ثم توجهت إلى اليونان عبر البحر".
وأضاف: "خلال فترة مكوثي في تركيا حاولت مرتين الوصول إلى اليونان بطريقة غير شرعية عبر البر، لكن كل محاولاتي باءت بالفشل بسبب مطاردة الكوماندوز اليوناني لنا".
تفاصيل مروعة
واستذكر النقلة، بعضاَ من تفاصيل المعاناة التي عايشها خلال الهجرة عبر البر،، قائلاً: "قطعنا مسافات طويلة، في غابات مُخيفة ومليئة بالحيوانات البرية والأفاعي وفي أحوال جوية متقلبة وسيئة في بعض الأحيان عبر موقع gps، حيث تخللها مطاردة الكوماندوز اليوناني لنا والذي كان العائق الأكبر في عدم وصولنا إلى اليونان، ما أدى لإصابته بعدة جروح جراء الضرب المبرح والاعتداءات التي تعرض لها على أيدي الشرطة اليونانية".
لم يجد شادي بعد ذلك خياراً أمامه سوى اللجوء للمهربين والمغامرة عبر البحر، مُشيراً إلى أنّه عكف خلال فترة مكوثه في تركيا على العمل من أجل توفير مبلغ مالي للمهربين.
وتابع: "غامرت في البحر 5 مرات حتى أصل اليونان، ورأيت خلالهم مشهد الموت بعيني"، مُبيّناً أنّ المرات الأربعة الأولى باءت بالفشل، وكانت المغامرة الخامسة هي نقطة الوصول لليونان.
وحول معاملة المهربين للمهاجرين، ذكر النقلة، أنّهم يُعاملون المهاجرين معاملة سيئة ولا يهمهم حياتهم، ولا يبحثون سوى عن المال فقط الذي سيحصلون عليه مقابل تهريبهم عبر البحر.
غرق القارب
"كنا في كل مرة نفشل فيها في الوصول إلى اليونان نتعرض للاعتقال من قبل خفر السواحل التركي لمدة 5 أيام ثم نعاود مرة أخرى إلى أن تمكنا من النجاح في العبور إلى اليونان في المغامرة الخامسة"، بهذه الكلمات وصف النقلة رحلة هجرتهم المحفوفة بالمخاطر.
وأردف: "في المرة الرابعة، عندما وصلنا إلى شاطئ البحر "نقطة التهريب" صُدمنا بعدد المهاجرين وبمراوغة المهربين ومخالفتهم لما اتفقنا معهم عليه، وتحت تهديد السلاح اضطررنا للصعود على متن القارب".
واستدرك: "كنا نحو 60 شخصاً من جنسيات متعددة على متن بلم بلاستيكي مساحته 6 متر، وبسبب الأمواج العالية والعدد الكبير تعرضنا للغرق وبقينا نُصارع المصير المجهول، والأمواج العاتية من كل اتجاه، لمدة ساعة إلى أنّ تم إنقاذنا من قبل خفر السواحل التركي".
لم يستلم شادي، بعد مشاهد الموت التي عايشها خلال غرق المركب في المرة الرابعة، وجازف للمرة الخامسة التي تمكن خلالها من الوصول لليونان في 13/7/2019مقابل مبلغ مالي دفعه للمهربين قدره 1500دولار، حيث مكثت فترة إقامته في اليونان مدة عامين ومن ثم توجه إلى بلجيكا التي يُقيم ويعمل بها حالياً.
الهروب من كابوس الفقر
الشاب أشرف بلاطة "29عاماً"، قرر أيضاً خوض مغامرة الهجرة عبر البحر، هربًا من كابوس الفقر والبطالة في غزّة، حيث أوضح أنَّ رحلة معاناته بدأت بعد مغادرته قطاع غزّة ووصوله للقاهرة عبر معبر رفح البري، ثم الانتقال إلى تركيا، وأخيراً الهجرة إلى ألمانيا بسبب صعوبة الأوضاع في تركيا، بحسب ما روى بلاطة لمراسلة "خبر".
وقال: "خلال فترة مكوثي في تركيا، تواصلت مع مهرب بمدينة أزمير واتفقنا على أنّ أدفع له مبلغ مالي قدره ألف دولارأمريكي مقابل الوصول إلى اليونان بحراً عبر قارب".
وأكمل: "مع حلول وقت الرحلة، تجمعنا في مكان يُطلق عليه المهربين "بيت التجمع" ثم جاء باص وأقلَ جميع المهاجرين البالغ عددهم 30 شخصاً إلى بحر إيجة وهونقطة التهريب".
وتابع: "بعد وصولنا إلى نقطة التهريب بدأنا بالصعود على متن "البلم" وهو عبارة عن قارب مطاطي مصمم لبحيرة أو مسطح مائي بسيط ولا تصلح للهجرة"، لافتاً إلى أنّهم مكثوا في قارب الموت لمدة 5 ساعات حتى تمكنوا من الوصول إلى اليونان".
وروى مشاهد الرعب والذعر، قائلاً: "طوال مسير القارب في البحر كانت مشاهد الخوف والرعب تُسيطران على مخيلتي، ولم تغب عائلتي وزوجتي وابني عن ذهني، لكّن عناية الله لنا هي من أنجتنا من الغرق و الموت".
وأوضح أنّه بعد وصوله إلى اليونان تم اعتقاله من قبل خفر السواحل اليوناني لمدة عدة أيام، مُنوّهاً إلى أنّه بعد إقامته في اليونان لمدة عام ونصف تمكن من الحصول على الإقامة اليونانية التي تُمكنه من السفر إلى الدول الأوروبية.
أسباب الهجرة
بدوره، قال المحلل الاقتصادي، معين رجب: "إنّ معدلات الهجرة من غزّة عالية جداً ومُخيفة ما يستدعي إيجاد حلول لها للحد منها"، مُشيراً إلى أنّها ليست مشكلة طارئة بل قديمة مُتجددة.
وأضاف رجب في حديثٍ خاص بوكالة "خبر": "رغم المخاطر التي تحف طريق الهجرة إلا أنّ الكثير من الشباب الغزيين يسلكون هذا الطريق بحثاً عن فرصة عمل مناسبة و حياة كريمة لهم.
وبيّن أنَّ الأوضاع الاقتصادية الصعبة وارتفاع معدلات البطالة والفقر نتيجة الحصار الإسرائيلي المفروض على قطاع غزّة منذ أكثر من 14 عاماً، والانقسام الفلسطيني، هي أبرز العوامل التي دفعت الشباب للهجرة من غزّة.
وتابع رجب: "المسؤول الأول عن لجوء الآلاف من الشباب للهجرة من غزّة، هم قادة المجتمع الفلسطيني والمسؤولين في الحكومة الفلسطينية باعتبارهم رعاة الأمة وبيدهم القرارات ويقع على عاتقهم وواجبهم توفير فرص عمل لهؤلاء الشباب".
كما حمَّل، الاحتلال الإسرائيلي مسؤولية ضياع مستقبل الشباب بغزّة، بسبب سياسته القائمة على الحصار وتضييق الخناق على الفلسطينيين وحرمانهم من أبسط حقوقهم.
واختتم رجب حديثه، بالقول: "إنّ هذه المشكلة تحتاج لبذل جهود كبيرة وإلى تعاون من جميع الأطراف لوضع رؤية لها"، لافتاً إلى أنّ مجتمعنا يضم اتحادات ونقابات وجهات خيرية وجامعات بها قامات كبيرة في المعرفة ويمكن الاستفادة منها في إيجاد حلول للحد من الهجرة.
إحصائيات وبيانات
ولا يوجد إحصائيات ثابتة ورسمية، حول عدد المهاجرين من غزّة، لكن وفق تقرير نشرته هيئة البث العبرية "كان"، تبيّن أنّ عدد الشباب المهاجرين من قطاع غزّة تجاوز الـ 40 ألفاً، حتى منتصف عام 2018، و20 ألفاً وفق تقديرات الأمم المتحدة.
وكانت وزارة الداخلية، قد أشارت في إحصائيات لها إلى أنّ أكثر من 74 ألف فلسطيني تمكنوا من السفر خارج قطاع غزّة عبر معبر رفح منذ بداية العام الحالي 2021، فيما عاد منهم 57 ألفاً فقط.
وأوضحت، أنّ نحو 17 ألف شخص بقوا خارج غزّة سواء سافروا بغرض هجرة شرعية عن طريق المعابر أو هجرة غير شرعية عبر قوارب الموت والتهريب.
ويُعاني أكثر من 2 مليون فلسطيني في قطاع غزّة من أوضاعٍ كارثية في كافة المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وبحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، فإنّ عدد العاطلين عن العمل في فلسطين بلغ 366 ألف عاطلاً عن العمل خلال الربع الثاني من عام 2021؛ بواقع 212 ألف شخص في قطاع غزّة، بمعدل بطالة وصل لـ 45٪.