مسيحيو الشرق، مرة ثانية

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

بقلم: عبد الغني سلامة

عشية عيد الميلاد في 2017، نشرت في «الأيام» مقالا بعنوان «يا مسيحيي الشرق، شكرا لكم»، ويبدو أن المقال حظي باهتمام وانتشار لا بأس به، وما زالت مواقع عديدة تعيد نشره، وقد تلقيتُ مكالمات هاتفية من بلدان مختلفة تشكرني على المقال، ومنهم من عاتبني على تجاهل أسماء لشخصيات مسيحية مرموقة تركت أثرا مهما في مجالات إنسانية متعددة.. ومنهم من لامني بشكل خاص على إغفال مسيحيي العراق. من جهتي، لم أتعمد إغفال أي اسم، وقد كتبتُ ما جادت به الذاكرة، وما أسعفتني به محركات البحث، مع الشعور بالحرج للسؤال عن بعض الشخصيات التي التبست عليّ، حيث إن الانتماء الديني أو الطائفي مسألة حساسة وشديدة الخصوصية. لكن موضوع مسيحيي العراق بالفعل يستحق تسليط الضوء عليه مرة بعد مرة، نظرا لحجم المعاناة والظلم الذي تعرضوا له.
في واقع الأمر، لم يخلُ أي عهد عراقي من الوجود والتأثير المسيحي، في المجتمع والدولة والإرث الحضاري؛ ومسيحيو العراق بوصفهم مواطنين أولا، كانوا وسيظلون من أهم المكونات العراقية، فهم من نبت الأرض العراقية، ومن نتاجها، ولم يكونوا زوارا ولا خُطّارا، ولا مجرد أقلية تعيش على هامش المجتمع.. هم وُجدوا وعاشوا في العراق، قبل أي مكوّن عراقي آخر، حتى قبل المسيحية نفسها، وطالما ارتبط تاريخ العراق القديم بالحضارات الأشورية والكلدانية، والتي هي من بين أقدم حضارات العالم.. وما الكلدان والأشوريون المسيحيون، اليوم، إلا امتداد لهذا التواصل التاريخي.  
حين ظهرت المسيحية في فلسطين نظر إليها مجمع «السنهندرين» بوصفها هرطقة يهودية.. وبعد أن شقت لنفسها دربا مميزا، باعتبارها دينا سماويا جديدا، بشَّـر به يسوع الناصري، سرعان ما انتشر المسيحيون الأوائل في ربوع بلاد الشام وما بين النهرين، وهكذا ظهرت المسيحية في العراق في القرن الأول الميلادي. في العصور المسيحية المبكرة ظهر الأبيونيون، والأريسيون، وبعد مجمع «نيقية»، و»أفسس»، و»خلقدونيا»، ظهر اليعاقبة، والنساطرة الذين اعتبرتهم الكنيسة الرسمية مهرطقين، وأخذت تضطهدهم، فوجدوا في العراق ملاذا آمنا.. فبنوا فيها كنائسهم ومراكزهم الأسقفية.  
ولما أتى «الفتح» العربي الإسلامي رحبت الكنائس العراقية بالفاتحين الجدد، واستبشرت خيرا بتخلصها من مضايقات بيزنطة، وتدخلها في شؤون الكنائس العربية، ومحاولاتها تغريب مسيحيي الشرق.  
وفي الواقع، فإن مسيحيي الشرق ساهموا ومنذ البداية في بناء الحضارة العربية الإسلامية، ولنتذكر أنَّ النجاشي أول من حمى المسلمين الأوائل من بطش قريش، وبعد ذلك لعبوا أدوارا إيجابية ومهمة في العصور الأموية والعباسية وما تلاهما، وفي إثراء الثقافة العربية بكل أشكالها وتجلياتها؛ في العلوم والآداب والفلسفة والترجمة.. خاصة من اليونانية والسريانية والفارسية، وعرف منهم «شمعون الراهب»، و»جورجيوس أسقف حوران»، و»سعيد بن البطريق» و»قسطا بن لوقا»، و»يوحنا بن البطريق»، و»إسحق الدمشقي»، و»يحيى بن يونس»، و»الحجاج بن مطر»، و»عيسى بن يحيى»، و»عبد المسيح الكندي»، و»جبريل بن بختيشوع»، الذي بقيت أسرته مسؤولة عن الطب في الدولة العباسية على مدار ثلاثة قرون، و»يوحنا بن ماسويه»، الذي عينه الخليفة المأمون رئيسا لبيت الحكمة، وقد ترجم وألّف خمسين كتابا، و»حنين بن اسحق» كان أيضا رئيسا لبيت الحكمة، ومن بعده «حبيش بن الأعسم».
وحديثا: هم أول من طبع القرآن وقدموه هدية للمسلمين، وهم من نفخ الروح في اللغة العربية بعد أن ضعفت بسبب سياسة التتريك العثمانية، وهم أول من جلب المطبعة للمنطقة سنة 1733، وأول من صمم دائرة معارف عربية وكانت من تأليف بطرس البستاني، ومن أعد أول قاموس عصري للغة العربية «المعجم المحيط».
وفي العراق، برزت منهم شخصيات مرموقة، مثل طارق عزيز وزير الخارجية الأسبق، ومنير بشير الموسيقار الكبير وأشهر عازفي العود في العالم، ودوني جورج عالم الآثار الآشوري، وعمو بابا مدرب المنتخب العراقي الشهير، وهرمز رسام عالم المخطوطات الكبير مكتشف ملحمة جلكامش، وأنطوان شماس، وهو قانوني ومن واضعي القانون المدني، والأديبة إنعام كجة جي، والمطربة عفيفة إسكندر، والمناضل يوسف سلمان يوسف الملقب بـ»فهد»، من مؤسسي الحزب الشيوعي العراقي، وأول سياسي يُعدم في العراق الحديث (1949).
اليوم، يتوزع مسيحيو العراق على 14 طائفة، أكبرها عددا «الكلدان»، وكنيستهم تنتمي للمذهب الشرقي للكاثوليكية، يتحدثون (إلى جانب العربية لغتهم الأم) بلهجة مشتقة من الآرامية، ثم «السريان»، ومنهم كاثوليك وأرثوذكس، ويتحدثون الآرامية القديمة، ثم الأشوريون، ويعود وجودهم لأيام المملكتين الآشورية والبابلية، وقد تعرضوا لمذبحة كبيرة العام 1932، ثم الأرمن، الذين فروا إلى العراق بعد الحرب العالمية الأولى.
يتركز الوجود المسيحي في بغداد وكركوك وأربيل والموصل ودهوك مع وجود أعداد أقل في مناطق أخرى من العراق، وقد تضاءلت أعدادهم بشكل مرعب من حوالي 1.5 مليون سنة 2003، إلى ربع مليون فقط الآن. وكما قال المطران بشار متى وردة: «المسيحيون العراقيون على وشك الانقراض بعد قرون من الاضطهاد». مشيراً إلى التهديد الحالي الذي يمثله الجهاديون المتطرفون، ومذكراً بأن «داعش» حين احتلت الموصل العام 2014 أجبرت أكثر من 125 ألف مسيحي على مغادرة أرض أجدادهم التاريخية، دون أن تسمح لهم بأخذ شيء من متاعهم أو من أموالهم، وقد صادرت كل ممتلكاتهم.
وخلال هيمنة «داعش» على أجزاء واسعة من العراق، شهدت البلاد أعلى ذروة من العنصرية الطائفية، ومن عمليات التمييز والقهر والتي عبرت عنها عمليات التفجير العشوائية ضد المدنيين، وأعمال القتل والاغتصاب والخطف والتهجير القسري، وسرقة وتدمير المواقع الدينية، والإجبار على تغيير الديانة، وطلب الأتاوة، والاستيلاء على الممتلكات، واستهداف كل من هم خارج الطائفة.. كان مسيحيو العراق (والأيزيديون والصابئة) من أكثر الفئات التي تعرضت لكل هذه المظالم والأعمال الإرهابية.
شكلياً، يحفظ الدستور العراقي حقوقا متساوية لجميع المواطنين، بصرف النظر عن أديانهم وقومياتهم، ويضمن خمسة مقاعد برلمانية لمسيحيي العراق.. لكن واقع الحال يقول إن من بقي من السكان المسيحيين (شأنهم شأن بقية العراقيين) يعيشون بين نارين؛ تردي أحوالهم المعيشية وتردي الخدمات.. والمضايقات الدينية والتمييز الطائفي، ومن الواضح أن هناك مخططات لدى الميليشيات والأحزاب الدينية لإعادة هندسة التجمعات السكنية على أسس طائفية، وإفراغ العديد من المناطق من سكانها الأصليين.
في آذار 2021، زار بابا الفاتيكان العراق في رحلة تاريخية استمرت أربعة أيام، وتحدث عن التعايش بين الأديان، وصلى من أجل السلام في هذا البلد المبتلى بالطائفية والفساد والحروب.