كان لافتا خلال الأسابيع القليلة الماضية، التصاعد الحاد في العنف المجتمعي في بلادنا، وكان واضحا أن معظم من ينخرط في هذا العنف هم من فئة الشباب، وبغض النظر عن نوعية وحدة هذا العنف، أو الموقع، أو التداعيات أو الأسباب، ألا أن ذلك يحتاج إلى دراسة معمقة للأسباب والعوامل التي تقود الى هذا العنف، بحيث أصبحت حوادث العنف ومن ضمنها القتل، من الأمور الاعتيادية، التي قد يمر عليها الكثيرون دون وقفة، كما كان يتم في الماضي، أي قبل سنوات في بلادنا.
فهناك من الاعتداءات ما أدى أو يؤدي الى القتل من النوع الأسري، أو في التحديد من منظور النوع الاجتماعي، وبالأخص الاعتداء على النساء وبأشكال مختلفة ومؤلمة، وهناك الاقتتال الطلابي داخل وخارج المباني الأكاديمية التي تعلمنا أن لها حرمة واحتراما، والتي منها ما أدى وبشكل عنيف الى قتل الطالب في محيط الجامعة العربية الأميركية قبل أيام، ومنها العنف والصراعات الأكثر امتدادا وتأصلا، وبالأخص بين العائلات وبغض النظر عن الأسباب، كما حدث في الخليل وغيرها من المناطق مؤخرا، ومنها العنف الذي اصبح شبه اعتيادي، متمثلا في مظاهر كالسرقات والاعتداء على المنازل والنصب وسرقة السيارات أو لوحاتها وغير ذلك من ظواهر لم نعرفها في الماضي.
ومن مظاهر العنف الجديد كذلك، ما بات يعرف بالعنف الإلكتروني، أو هو ما يتم من خلال وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة والمتعددة، من سرقة معلومات أو بيانات أو صور وبالتالي ابتزاز وتهديدات، وما لذلك من تداعيات قد تكون عنيفة أو مميتة في بعض الأحيان، ومن مظاهر العنف في هذا المنوال، حوادث الطرق أو السيارات المميتة، والتي بشكل أو بآخر قد تتقاطع أسبابها، مع أسباب أنواع العنف الأخرى.
وعلى ذكر حوادث السير العنيفة التي نشهدها بشكل اعتيادي في بلادنا، ففي دول عديدة في العالم، حين تتكرر وتتكاثر حوادث السير المميتة والمؤلمة، وخاصة تلك التي تحدث تقريبا في نفس الموقع، او بنفس الطريقة او بنفس السبب، تتم دراسة الحادث ومراجعة ذلك وبدقة ومن مختلف الجوانب، وتتم دراسة الأسباب وبعناية، ومن ثم اتخاذ الإجراءات لضمان عدم تكرارها، ومن المعروف بديهيا ان مسببات حوادث السير بشكل عام إما ان تكون بسبب السائق او المركبة او الشارع او هذه العوامل مجتمعة.
وإذا كان عدم الالتزام بقوانين او آداب او سلامة السير اصبح من المسلمات او الأمور الواضحة في بلادنا، وبالأخص في الطرقات السريعة، تلك التي تربط المدن بالمدن او القرى بالمدن، فالسؤال الذي يطرحه المواطن والذي نسمعه باستمرار هو أين هي تلك الجهات التي من المفترض ان تراقب تطبيق قوانين السير، أي أين هي شرطة السير، وأين هي الإجراءات التي يتم اتخاذها لمنع وقوع الحادث التالي، وإذا كان التجاوز او السرعة الزائدة هي من الأسباب الأساسية لوقوع الحوادث في بلادنا، فهل تم اتخاذ الإجراءات التي تردع ذلك، وهل المخالفات والغرامات وحتى سحب رخص السياقة او حتى إيداع السجن يمكن تجاوزها من خلال الواسطة والمحسوبية والثقافة السائدة في هذا المجتمع.
ولا داعي للتعمق كثيرا في محاولة لسبر غور الأسباب للعنف بأنواعه، فالوضع الاقتصادي المتردي، والذي أفرز بالدرجة الأولى وسوف يفرز البطالة وعدم وجود فرص للعمل، وبالأخص عند فئة الشباب من الإناث والرجال، وهذا بدوره أدى الى التردي في الوضع الاجتماعي والتربوي، وهذا بدوره وبالإضافة الى التردي في الوضع السياسي من جمود وضبابية وعدم وجود آمال بالتغيير، واستحواذ فئة محددة على امتيازات كثيرة، هذه الأوضاع المتشابكة معا، أدت الى ما نحن فيه من مظاهر العنف في الوقت الحالي، ومنها المظاهر العنيفة التي تأخذ حيزا كبيرا في الإعلام ومن خلال حديث الناس، والتي من الواضح أنها سوف تتواصل وتتراكم إذا استمرت الأوضاع الحالية على ما عليه.
ومن إفرازات الأوضاع المتردية هذه، هو تصاعد ظاهرة الاكتئاب والإحباط وبالأخص عند الجيل الشاب في بلادنا، من إناث وذكور، وبالطبع فمن إفرازات ظواهر الاكتئاب يجيئ العنف بأنواعه، ومن إفرازات العنف ظواهر الاكتئاب، حيث إن مرض الاكتئاب يتشكل أو يتطور بفعل عوامل نفسية اجتماعية واقتصادية وتوتر وضغوط وما الى ذلك، إلا انه حين يتشكل يعتبر مرضا عضويا، أي يتم التعامل معه كيميائيا من خلال التدخل الكيميائي أو الدوائي لإحداث تغيير كيميائي في أجسام أو بالأدق أدمغة مرضى الاكتئاب، وبالتالي توفير ظروف طبيعية من الناحية الكيميائية داخل الجسم، تؤدي الى الابتعاد عن الأعراض والآلام التي يسببها مرض الاكتئاب.
وإذا كانت حوادث العنف الفردية هنا وهناك تتم معالجتها بشكل أو بآخر حسب حدتها، سواء في الإطار العشائري أو من خلال الجاهات والتي قد تأخذ مظاهر وتداعيات مؤلمة وبالأخص على أناس أبرياء لم يكن لهم دور في العنف، أو من خلال الإطار الأمني أو القانوني، أو في الإطار العائلي الضيق، إلا أن تصدعات السلم المجتمعي وان تواصلت وتراكمت وتصاعدت، سوف تصبح أمرا روتينيا يمر عليه الناس بشكل سريع، ويصبح جزءا من الواقع المؤلم العنيف الذي عايشناه خلال الفترة الماضية.
وهذا يستدعي التدخل وبعمق، أولا من الجهات الرسمية، من خلال توفير البيانات والأرقام وإجراء الأبحاث والدراسات التي تحدد أسباب العنف بشكل موضوعي علمي بعيدا عن التخبطات والاجتهادات، وربط الأسباب مع أنواع العنف وحدته، وبالتالي التدخل من خلال إجراءات مدروسة عملية وبشكل تعاوني، والاهم هو الالتزام بنظام من المتابعة والتقييم للنتائج وفي فترة زمنية محددة.
والتدخل الرسمي وكما يتم في المناطق في العالم، يستدعي التدخل في كافة المسارات التي ترابطها يؤدي الى العنف، في المسارات الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والسياسية وما الى ذلك، وبالإضافة الى الجانب الرسمي وهو الأهم، فإن هناك أدورا مهمة ولو في نطاق أضيق لمؤسسات المجتمع المدني وبأنواعها، وفي إطار العائلة الممتدة وفي داخل الأسرة، وكل حسب وسائله وإمكانياته، لكي تعمل مجتمعة للحد من ظواهر العنف ومنها حوادث مميتة، قد تصبح إن تواصلت جزءا عاديا من الأمور الحياتية، مثل تلك التي تعايشها مجتمعات أو بلدان أخرى.