منذ زمن طويل تضع دولة الاحتلال في مركز اهتمامها كسر إرادة الأسرى الفلسطينيين وهزيمتهم سياسيا ومعنويا، اعتقادا منها، أن تحقيق هذا الهدف، سيكون فصلا حاسما في هزيمة عقيدة وثقافة التحرر الفلسطينية. في السنوات الأخيرة صعّدت سلطات الاحتلال من حربها ضد الأسرى، سواء بالتراجع عن المكتسبات التي انتزعها الأسرى بنضالهم وتضحياتهم، وبتوسيع دائرة الاعتقال ورفع الأحكام الجائرة بصورة استفزازية، أو عبر الخنق المالي من خلال اقتطاع الأموال الفلسطينية المخصصة للأسرى وعائلاتهم ولأسر الشهداء. مقابل ذلك، لا يكتفي الأسرى برفض الإجراءات والصمود بل يجترحون أشكالا نضالية مدهشة كالإضراب المفتوح حتى الاستجابة للمطالب، والتحرر عبر الفرار من السجن - عملية سجن جلبوع البطولية -، أو تهريب الأزواج نطفهم لزوجاتهم خارج السجن، إضافة لعمليات تبادل الأسرى مع سلطات الاحتلال.
معركة الأسرى ضد محاولات إخضاعهم هي معركة كل الشعب الفلسطيني وتشمل حقول السياسة والسينما والأدب والشعر والفن التشكيلي والإعلام والرواية، كما تشمل الجانب الأخلاقي والإنساني والمعنوي والنفسي. إنها معركة كر وفر دون نهاية حاسمة، ومن هنا احتل الأسرى مكانة رمزية ومعنوية تاريخية في التحرر الفلسطيني.
في معمعان صراع الأسرى مع الجلاد والمستعمر الإسرائيلي دخل "فيلم أميرة" للمخرج المصري محمد دياب على الصراع، فهل خدم الأسرى ودعم نضالهم أم لا؟
أين كان موقع الفيلم من السرديتين الفلسطينية والإسرائيلية؟ كثيرون أدلوا بدلوهم من سياسيين وسينمائيين ومثقفين ونقاد وشخصيات نسوية، حيث لم ينحصر الخلاف بين سردية السياسي التي لا تحتمل النقد ورؤية المثقف والفنان وإشكاليات طروحاتهم.
والأهم جاء موقف أسرى وزوجات وعائلات أسرى ممن أدلوا بآرائهم حول دور فيلم أميرة ليضعوا النقاط على الحروف.
الفيلم بكل المقاييس أثار أسئلة وجدلا حول الفن والسينما وعلاقة السياسي بالثقافي وحرية التعبير.
في هذا الصدد من المهم التأكيد على حق الفنانين في تناول كافة القضايا وإشكالياتها بالنقد بما في ذلك قضية الأسرى.
ولا يوجد قضايا غير قابلة للنقد، وبخاصة عندما نكون بصدد قضايا إنسانية واجتماعية وحقوقية كبيرة مسكوت عنها.
لم يكن الخلاف على هذا الحق على الأقل من وجهة نظر عدد كبير من المثقفين/ات والفنانين/ات. الخلاف حول النجاح والفشل، وحول السياق والثقافة الحاضنة للفيلم، وحول من كان في خدمة من؟
السؤال الذي يطرح نفسه راهنا، أين موقع الفن والثقافة التحرريين في الخريطة الجيو سياسية وقوى الهيمنة الاقتصادية ودور إسرائيل، بعد اتفاقات التتبيع والتحالف الإسرائيلي مع معظم دول الخليج.
هل يمكن الجمع بين ثقافة الاتفاقات الإبراهيمية المتوافقة مع الرواية الإسرائيلية، وثقافة التحرر أو ثقافة رفض التبعية والخضوع؟ الجواب لا، وإلا ما معنى إقصاء الذاكرة المتعلقة بالثورات أو الانتفاضات المغدورة، ولماذا الإمعان في السيطرة على المشهد السينمائي بالأموال، بدعم أفلام بمضامين سياسية واجتماعية لتتصدر المشهد وحجبها عن أفلام أخرى.
بعد اتفاقات كامب ديفيد المصرية الإسرائيلية، لعبت جبهة الثقافة المصرية العربية دورا مؤثرا في مقاومة التطبيع وفي بناء حاضنة ثقافية ومجتمعية لقطع الطريق على ثقافة التبعية الجديدة، وقد أحرزت نجاحات مهمة في عزل النظام السياسي الذي أبرم الاتفاقات.
غير أن هذه الجبهة لم تفعل إلا القليل بعد الاتفاقات الإبراهيمية وعلاقات التبعية الجديدة. فقد جرى فصل الثقافة والفن عن السياسية من قبل نخب ثقافية وفنية عديدة، ولم تمارس الثقافة حق النقض للسياسات المذلة للشعوب، في الوقت الذي حافظت فيه دول التتبيع على علاقاتها مع الثقافة والفن للتغطية على علاقاتها وأدوارها الجديدة، ظنا منها أنها تستطيع شراء الثقافة والفن بالمال. واقع الحال استمرت المشاركة في المهرجانات والجوائز والمعارض مقابل الصمت كحد أدنى.
هل يمكن إخراج فيلم أميرة من هذا السياق، لاسيما أن الفيلم يخدم الرواية الإسرائيلية بشكل غير مباشر، في أحد أهم وأخطر القضايا الحساسة وهي قضية الأسرى، حتى لو لم يرغب المخرج والمنتج والممثلون في ذلك، وهم لا يرغبون فعلا.
يقول أحد المدافعين عن الفيلم نقلا عن المخرج محمد دياب. ما أراده دياب هو رصد معتقد الإنسان وهل سيقوم بالخيارات نفسها لو ولد شخصا آخر، هذه الجزئية هي ثيمة الفيلم، ويضيف إن السؤال الإشكالي للفيلم يتعلق بالاختيارات ومدى علاقتها بشرط الولادة، ويختم بالقول هذا هو هدف الفيلم، طرح سؤال ضمن قضية عليها إجماع والاختلاف عليه.
لقد سبق للأديب غسان كنفاني الإجابة عن هذا الافتراض منذ نصف قرن وينوف، عندما قدم حكاية نسيان طفل في حيفا أثناء التطهير العرقي وقد تحول إلى جندي إسرائيلي كاره لوالديه الأصلانيين محملا إياهما المسؤولية عن انحيازه وانتمائه للإسرائيليين.
مع فرق أن رواية "عائد إلى حيفا" التي لم تتهاون في نقد الحالة الفلسطينية بجرأة لا تقبل اللبس، قدمت درسا مهما يقول إن الإنسان قضية وليس علاقة دم ووراثة فقط، ورأت أن الانخراط في المقاومة هو الحل. ولم يكن من باب الصدفة أن رواية "عائد إلى حيفا" ساهمت في تطوع آلاف الشبان في المقاومة.
أما فيلم أميرة الذي أراد أن يقول إن الطفلة التي كانت نتاجا لنطفة إسرائيلية بديلة للنطفة الفلسطينية بقيت ملتزمة بقضيتها وبأسرتها الفلسطينية، لكن النتيجة الأكثر حضوراً من فرضية الفيلم كانت تشكيكا بإنجاز الأسرى في تهريب نطفهم.
افتراض مخرج الفيلم، أدى إلى نتائج معنوية وخيمة ليس أقلها تقديم الإسرائيلي كطرف قادر على إلغاء إنجاز الأسرى في تهريب النطف، وتحويل عناصر قوة الأسرى إلى عناصر ضعف وشك.
لا شك في أن فيلما من هذا النوع لا يهزم الأسرى وقضيتهم، تلك القضية أقوى من فيلم، وأقوى من العقل الإقصائي والأمني الإسرائيلي، ولم يستكن أبطالها وبطلاتها لكل أساليب القمع والإرهاب الإسرائيلية، لكن الفيلم تحول موضوعيا إلى جزء من الحرب النفسية الموجهة ضد الأسرى وضد القضية الأكبر قضية التحرر من الاحتلال، في أصعب اللحظات وأشدها خطرا.
لقد تعامل القائمون على الفيلم بعقلية المستشرقين من زاوية عدم فهمهم للواقع، وفي تجاهلهم للفئة المستهدفة (الأسرى وعائلاتهم وتحديدا أصحاب وصاحبات تجربة النطف)، في الوقت الذي أجمع فيه كثيرون على عدم وجود بحث وقاعدة معلومات للفيلم، فقط اعتمدوا على الخيال وافتراضاته، رحم الله الشاعر محمود درويش الذي عكف على دراسة 400 مرجع عن العرب في الأندلس، لتكوين بيئة لقصائده عن تلك الفترة.
بقي القول إن منع الفيلم كان خاطئا، كان تفكيكه ونقد منطقه وبناء رأي عام ضد التقاطع مع الرواية الإسرائيلية وضد ثقافة التماهي مع المعتدي هو الأصح.