: تعرفون أننى لست من أنصار نظرية المؤامرة.. فقد قضيت عمرى متحدياً لإرادة الخصوم.. فلا شىء أقوى من إرادتك أنت.. لذا فالنجاحات تولد دائماً من رحم الإرادة مهما كانت التحديات.. غير أن استقراء وتحليل المشهد المصرى الراهن وارتباطه الحميم بالمشهدين الإقليمى والدولى يؤكدان أن ما يحدث ليس مصادفة، ولا هو تفاعلات عالمية عادية..!
على مدى شهرين كاملين.. كان هدفى جمع أكبر قدر من المعلومات من مصادرها الطبيعية حول «احتمال وجود مخطط أمريكى غربى ضد مصر».. التقيت عشرات الشخصيات المصرية والعربية والدولية ذات الثقل والمصداقية.. تجنبت أولئك الذين يجيدون اللعب على كل الأطراف ومع كل الأنظمة.. كان المبتدأ والمنتهى فى تلك اللقاءات «عدم إفشاء الاسم»، والأهم توجيه السؤال المناسب للشخص المناسب..!
وبطبيعة الحال.. بدا الأمر وكأننى أبحث عن الشمس فى سماء صافية ومتوهجة.. فلا أحد - خصوصاً المصادر الغربية الموضوعية- لا يرى «المخطط» ساطعاً، بل إن بعضهم يتهمنا بأمرين متوارثين فى الذهنية المصرية: عدم قراءة التاريخ بعقلية تحليلية.. والسلبية فى مواجهة إرادة الآخر أو بمعنى أدق مخططات الخصوم والأعداء..!
مبدئياً.. دعونا نتفق أن النظام العالمى الذى تشكل عقب الحرب العالمية الثانية على أساس ثنائية القطبية - الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتى - كان طارئاً من وجهة نظر الغرب.. لذا بات طبيعياً أن تستمر الحرب الباردة لأكثر من أربعين عاماً، حتى تحقق الهدف الأمريكى بالانفراد بقيادة العالم عقب سقوط الاتحاد السوفيتى.. غير أن دوائر التخطيط الاستراتيجى فى واشنطن رأت أن بناء النظام العالمى الجديد بحاجة إلى ثلاث ضرورات مُلحة:
الأولى: وجود حلفاء أقوياء فى أوروبا ومنطقة الشرق الأوسط وآسيا وأفريقيا.. فظهرت تحالفات المصالح مع إنجلترا وألمانيا وتركيا.. وعلاقات التبعية التامة فى المنطقة العربية.. وجسور التعاون الاقتصادى مع دول جنوب شرق آسيا.. ثم التواجد الأمريكى الأوروبى الإسرائيلى القوى فى دول أفريقيا.
الثانية: خلق ودعم جماعات وتنظيمات التطرف الإسلامى بهدف تهيئة الأجواء فى الشرق الأوسط لدور إسرائيلى أكثر قوة وتمهيد الأرض لتقسيم المنطقة بمساعدة تركيا وقطر.. وإعادة رسم الخريطة، بحيث تسقط القوى والدول الكبرى - راجع سيناريو إسقاط العراق ثم سوريا ومحاولات إسقاط مصر - وظهور قوى جديدة تدير المنطقة، أبرزها إسرائيل وتركيا وإيران.
الثالثة: فتح الطريق أمام صعود تيار الإسلام السياسى إلى قصور الحكم فى الدول العربية.. بما يمهد للتقسيم باعتبار أن هذا التيار الذى تقوده جماعة الإخوان لا يعبأ بالقومية أو بالوحدة الوطنية بقدر استناده إلى فكرة الأممية الإسلامية.
منذ مطلع التسعينيات من القرن الماضى عقب تفكك الاتحاد السوفيتى.. بدأ تنفيذ المخطط: ظهور ونمو مدهش لتنظيم القاعدة.. بدء الاتصالات الأمريكية الغربية بوتيرة متصاعدة مع «الإخوان».. تدمير دولة وجيش العراق.. والأهم مسامير الواحد تلو الآخر فى نعوش الأنظمة العربية التقليدية، مع إبعاد إسرائيل تماماً عن خط المواجهة، إلى حين تسليمها الأرض «سابقة التجهيز»..!
ثم ماذا حدث..؟!
كشف لى مراقبون غربيون وعرب ما يساورنا فى مصر منذ فترة: المشكلة التى طرأت أمام صناع السياسة الأمريكية تتلخص فى أمرين مفاجئين لا ثالث لهما:
الأول: صعود «فلاديمير بوتين» إلى المشهد الروسى، بما يحمله من أحلام وطموحات جامحة لإعادة الدب الروسى إلى «قطبية جديدة» بتحالف قوى مع الصين والنظام السورى الصامد واستقطابه - ولو جزئياً - لإيران.
الثانى: الإطاحة بـ«الإخوان» من حكم مصر فى ثورة 30 يونيو 2013، والصعود المفاجئ لمواطن مصرى - قادم من خارج الحسابات- اسمه «عبدالفتاح السيسى»!
الاثنان «بوتين والسيسى» قادمان من مساحة «التحدى».. فالأول أثبت خطأ الحسابات الأمريكية التى استندت إلى حتمية دخول روسيا عقب تفكك الاتحاد السوفيتى عقوداً طويلة من الضعف.. والثانى - مع الشعب المصرى - أسقط نظاماً حاكماً ظل الغرب يستثمر فيه عقوداً أطول.. والأكثر مرارة فى الحلق الأمريكى والغربى أن الاثنين «بوتين والسيسى» يتشابهان - مصادفة - فى تركيبة الشخصية: كراهية غير معلنة للسياسة الأمريكية التآمرية فى العالم.. زعامة طاغية تستند إلى ظهير شعبى قوى.. وذكاء سياسى ملحوظ يسمح بالمناورة المفتوحة مع واشنطن.
لا تؤمن دوائر التخطيط الأمريكية بالتغيير الكامل للاستراتيجيات والأهداف فى حالة ظهور مستجدات معرقلة.. فالاثنان ثابتان- الاستراتيجية والأهداف - والتغيير دائماً فى الآليات ووسائل التنفيذ..!
بوتين والسيسى فى المواجهة إذن.. كلاهما يدرك أن الأمر ليس سهلاً. بوتين يمتلك أدوات تسمح له بالهجوم والدفاع والكر والفر- راجع سيناريو أوكرانيا وسوريا وداعش وإسقاط أنقرة للمقاتلة الروسية ومعارك موسكو المفتوحة على كل الجبهات - الزعيم الروسى يسعى لاستعادة نفوذ بلاده فى العالم، والوصول إلى البحار والمياه الدافئة.. هو حدد أهدافه وقدر الثمن..!
السيسى لا يمتلك أدوات بقوة «بوتين».. فارق كبير بين روسيا ومصر.. ولكنه يدرك ذلك تماماً.. لذا فهو «يلتحف» بأربعة عناصر تتيح له مقاومة المخطط الأمريكى الغربى:
الأول: الظهير الشعبى المصرى والعربى - راجع خطاباته المستندة إلى الاستمالات وتركيزه الدائم على الاصطفاف الوطنى - فالرجل يعرف تماماً أنه وبلاده مستهدفان.. ولا يريد ولا يقوى على الوقوف وحده فى مواجهة هذه المخططات.
الثانى: سياسة خارجية عاقلة دون انفعال تعتمد على التقارب والاستقطاب أكثر من التباعد والاختلاف.. وهو ما بدا واضحاً فى كثرة زياراته الخارجية دون الالتفات كثيراً لانتقادات البعض لذلك.
الثالث: التقارب الشديد مع روسيا و«بوتين».. فالرئيس السيسى قرأ مبكراً شخصية نظيره الروسى وأحلامه، فمنحه جسراً جديداً إلى القاهرة، وفقاً لنظرية المصالح المشتركة.. مصلحة روسيا فى العودة إلى دورها القوى بالمنطقة.. ومصلحة مصر فى مقاومة وإجهاض المخطط الأمريكى فى ذات المنطقة، مع تنويع مصادر السلاح.. وكذلك دعم موسكو السياسى والاقتصادى.
الرابع: محاولات «السيسى» الحثيثة لتشكيل تحالفات قوية فى مواجهة التحالف الأمريكى البريطانى التركى القطرى الإسرائيلى.. بدأها الرئيس المصرى بـ«محور مصر السعودية الإمارات».. مما دفع واشنطن إلى محاولة «ضرب وإضعاف العلاقات بين الأطراف الثلاثة».. نجحت الإدارة الأمريكية جزئياً على الصعيد السعودى وفشلت جزئياً مع الإمارات.. ثم محاولة واشنطن قطع الطريق على «السيسى» نحو بناء علاقات وطيدة مع الصين ودول شرق آسيا - بدا ذلك بوضوح فى زيارة الرئيس المصرى لتلك الدول منذ عدة أشهر - ثم سعى «السيسى» لبناء تحالف مع اليونان وقبرص لتطويق الدور التركى بالمنطقة، فأنقرة تسعى للتمدد جنوباً، والقاهرة تحاول إنهاكها شمالاً وغرباً وبحراً..!
مصر فى المواجهة إذن.. و«السيسى» على خط النار.. إذ لم يكن مطلوباً ولا مقبولاً أن يأتى على رأس السلطة رجل غير تابع لواشنطن.. لاسيما أن أمريكا لاتزال تعانى من تبعات وصول رؤساء يتمتعون بالكاريزما والشعبية فى بعض بلدان العالم.. هم بحاجة الآن أكثر من أى وقت مضى إلى رؤساء وملوك وأنظمة عربية خاضعة وخانعة تماماً!
وإذا كانت منظمات وجماعات التفكير والتخطيط فى واشنطن قررت مواجهة «بوتين» الجامح بسياسة «تقليم الأظافر».. فإنها لا ترى بديلاً عن الإطاحة بالرئيس السيسى تماماً، لأنه يعوق بقوة تنفيذ مخططها فى المنطقة..!
توقف قليلاً.. واستعرض شريط ومحطات المخطط الأمريكى لإضعاف «السيسى» داخلياً وخارجياً.. داخلياً بحصاره اقتصادياً وعرقلة الاستثمارات الخارجية وضرب السياحة، وهو ما من شأنه - وفقاً للسيناريو الأمريكى - إضعاف الاقتصاد المصرى، وزيادة الاحتقان الشعبى والاحتجاجات.. وداخلياً أيضاً بإعادة تشكيل وتأهيل عناصر معارضة من الشباب، مثلما حدث قبل ثورة يناير 2011، مع الحرص الشديد على تجديد الوجوه وإخفاء الأمر عن أجهزة الأمن المصرية، باستخدام أساليب «استخباراتية» مختلفة عن سابقتها فى الفترة من 2007 إلى 2011.
غير أن الأهم والأخطر فى «المخطط» هو استبعاد الرهان الأمريكى على عودة «الإخوان» للحكم.. فواشنطن تدرك تماماً أن «كارت الجماعة» احترق على المستوى الشعبى فى مصر.. وبات البديل يستند على محورين:
الأول: محاولة تقويض «دولة السيسى» بالإرهاب والعنف والفوضى، وبالتالى تهيئة مصر لسقوط رئيسها وتقسيمها وفقاً للخريطة التى وافقت عليها «جماعة الإخوان» أثناء فترة حكم «مرسى»!
الثانى: تعمد طرح أسماء بديلة لـ«السيسى» والإيحاء بأن الإطاحة به خيار تدعمه دول فى المنطقة - منها السعودية - بل وصل الأمر إلى التلويح بأن ذلك لو تم بانقلاب عسكرى لن يغضب أمريكا والخليج والغرب - راجع كتابات أقلام غربية عدة، فى مقدمتها «ديفيد هيرست»، المدير التنفيذى لموقع «ميدل إيست آى البريطانى»، ونقلها فى الصحافة الأمريكية والتعليق عليها، فضلاً عن كتابات أمريكية أخرى تسير فى ذات الاتجاه.
يقول «هيرست» فى مقال تحت عنوان «هل نحن على مشارف الأيام الأخيرة من حكم السيسى؟!» سلسلة الكوارث التى حدثت تسببت فى إثارة التكهنات حول احتمال اقتراب وقت السيسى فى السلطة من نهايته حيث أكد بعض المحللين السياسيين والمراقبين أن عدم الاستقرار المتزايد فى البلاد يشير إلى عدم قدرة الحكومة على التعامل مع موجة من القضايا فى وقت واحد!
ثم يضيف «هيرست»، المحسوب على أجهزة مخابرات غربية، فى مقال آخر على موقع صحيفة «هفنجتون بوست» الأمريكية - لاحظ الأمريكية - بعنوان «السيسى يجب أن يرحل قبل فوات الأوان»: «الرئيس السيسى يخسر معاركه على عدة جبهات، ويجب أن يرحل قبل وقوع مصر فى كارثة قد تنتهى بتفكك الدولة».. ثم يحرض الكاتب بشكل مباشر على الانقلاب ضد الرئيس بقوله: «قبل أن يحدث ذلك يجب أن يتدخل شخص آخر حتى لو كان كما يبدو بشكل متزايد أن هذا الشخص الآخر هو ضابط آخر بالجيش..!!
بديل «السيسى»، وفقاً للمخطط الأمريكى، ليس شرطاً أن يكون من الإخوان أو الإسلاميين، ولكن الأهم أن يأتى مدركاً لـ«درس السيسى»، فليس مقبولاً أن يكون رئيساً شعبياً ولا زعيماً ولا عنيداً فى «الخضوع» لإرادة البيت الأبيض..!
تفهم واشنطن جيداً أن «خضوع» أنظمة ودول عدة فى المنطقة العربية لإرادتها لن يحرك ساكناً ولن يحقق شيئاً دون «سقوط مصر» وخضوعها.. وسقوط مصر لن يتم إلا برحيل «السيسى».. لذا كان طبيعياً أن تعمد دوائر غربية وعربية «موالية» تسريب أسماء بديلة له، وكأن الأمر مطروح للنقاش وتقييم الشخصيات.. هكذا تلعب «أجهزة المخابرات» دائماً.. ترمى الكرة فى الملعب، فيتجمع الجمهور، ويصبح المستحيل ممكناً، والمستبعد مقبولاً.. ويتحول الأمر إلى نقاش «ضع فى هذا السياق تصريحات القيادى الإخوانى المتخفى عبدالمنعم أبوالفتوح حول ضرورة إجراء انتخابات رئاسية مبكرة فى مصر»..!
هل فى السابق إجابة عن السؤال الأخطر فى مصر: لماذا أصبح «السيسى» قضية وطنية مهمة؟!.. أنا أراه كذلك.. بل أراه ضرورة تاريخية لوطن يبحث عن ذاته.. دعمه واجب.. وإسداء النصح له فريضة..!
المدهش.. أن معظم الشخصيات التى التقيتها مؤخراً - سواء دولية أو عربية - ترى ذلك أيضاً..!
ضعوا مصر فى قلوبكم وعيونكم.. احموها.. احفظوها.. وادعموا «السيسى» سواء بالتأييد العاقل.. أو الاختلاف الموضوعى.. أو حتى بالمعارضة المخلصة..!
عن المصري اليوم