هآرتس – الشرق الاوسط ينطوي على نفسه

تسفي-برئيل.jpeg
حجم الخط

هآرتس – بقلم  تسفي برئيل 

 

اليوم سينتهي بصورة رسمية تواجد القوات المقاتلة للجيش الامريكي في العراق. فعليا، انتهى هذا التواجد في 9 كانون الاول عند الاعلان عن انسحاب جميع الجنود الامريكيين من العراق. ولكن، مثلما اوضح المتحدث بلسان البنتاغون، جون كيربي فان “الحديث يدور عن تغيير المهمة، وليس بالضرورة عن تغيير تموضع القوات”. أي أن الامريكيين سيواصلون العمل كمرشدين ومدربين في العراق، لكنهم لن يستمروا في المشاركة في القتال على الارض.

يمكن تنفس الصعداء ازاء حقيقة أنه مقابل الانسحاب المرتبك والمتسرع من افغانستان في شهر آب الماضي، فان الانسحاب من العراق تم حسب بروتوكول منظم، الذي حددته واشنطن وببغداد معا، وطبقا للقانون الذي صادق عليه البرلمان العراقي، والذي يلزم الحكومة باخراج القوات الامريكية حتى نهاية السنة.

مع ذلك، الشرق الاوسط الآن ليس اكثر هدوءا، حيث الرئيس الامريكي جو بايدن يكمل الانسحاب العسكري لبلاده وينهي سنته الاولى في هذا المنصب. الحرائق الشديدة التي سببتها الحروب في افغانستان والعراق خبت حقا والقوات الامريكية اوقفت اطلاق النار، لكن بؤر المواجهة والاحتكاك بقيت على حالها، وهي ستواصل مرافقة المنطقة ايضا في السنة القادمة الى جانب طفرات وباء الكورونا.

تغيير المقاربة تجاه ايران

في العام 2022 الخارطة الاستراتيجية التي كانت حتى الآن كما يبدو واضحة ومحددة جيدا، يتوقع أن تتفكك الى خارطة متجزئة مبنية من منظومات محلية وليس من تحالفات،كتل وجبهات، مع تدخل دولي أقل. جرد نهاية السنة يشمل الحرب في اليمن التي تدخل عامها السابع، صراعات القوة في ليبيا، المواجهات في سوريا، تفكك السودان، تكرار سيطرة طالبان في افغانستان، الهشاشة في العراق، انهيار لبنان – كل ذلك ليس القائمة الكاملة. في جميع هذه البؤر يمكن ملاحظة تبخر التدخل الدولي.

اضافة الى ذلك تتبدد ايضا الرؤية التقليدية التي بحسبها النزاعات الاقليمية تغذي المنافسة الدولية وتشعل صراعات السيطرة لدول عظمى وتقاس بالنقاط الانتصارات أو الخسائر في الساحة الدولية. الشرق الاوسط آخذ في الانطواء على نفسه، وهو يبحث عن بدائل للحصرية الامريكية ويعد نفسه للعودة الناشطة لايران الى المنطقة. 

هكذا، التغيير المهم اصبح يتمثل في المقاربة العربية لايران – مثل الاتفاقيات التي وقعتها دولة الامارات مع النظام في طهران، والتي تتضمن اتفاق تجاري مهم بحسبه البضائع يمكنها من الآن أن تمر عبر ايران الى تركيا ومن هناك الى اوروبا، وهذا مسار سيقصر وقت نقل البضائع من عشرين يوم (عبر قناة السويس) الى اسبوع فقط. الزيارة التاريخية في ايران لمستشار الامن القومي، طحنون بن زايد، شقيق الحاكم الفعلي محمد بن زايد، والتقارير عن زيارة متوقعة لحاكم الامارات في ايران، تكسر الطابو منذ العام 2016. 

قبل ذلك تم التوقيع على اتفاق بين الدولتين لتأمين الملاحة في الخليج الفارسي، الذي استهدف منع هجمات الحوثيين في اليمن على اهداف لدولة الامارات. هذه الاتصالات توضح ايضا بأن اتحاد الامارات لم تعد تخشى من العقوبات الامريكية التي تحظر التعاون الاقتصادي والعسكري مع ايران. أبو ظبي لا تنوي التنازل عن علاقتها مع واشنطن، لكن تجميد بيع طائرات “اف35” لم ينزلق جيدا في حلقها، وقد قامت بالتوقيع على اتفاق لشراء 80 طائرة فرنسية من نوع “رفال”.

السعودية عقدت جولتي محادثات مع شخصيات ايرانية رفيعة في العراق، ومؤخرا عقد لقاء آخر في عمان، العاصمة الاردنية. ايران تعرض هذه اللقاءات كجزء من سياستها لاعادة ترميم علاقاتها مع دول المنطقة، لكن يوجد لطهران والرياض مصالح مشتركة، وضع سياسة لتسعير النفط وأن يتم توزيع الزبائن بينهما، عندما ستعود ايران بكامل الزخم لانتاج وتسويق النفط للعالم. 

كلما تقدمت العلاقات بين دول الخليج وايران فانه سيتطور الاحتمال لانهاء الحرب المأساوية في اليمن، التي جبت مئة الف قتيل واعتبرت من قبل الامم المتحدة الكارثة الانسانية الاكبر في الشرق الاوسط. في هذه الجبهة الولايات المتحدة ليست شريكة فعالة. التحالف العربي الذي أسسه في 2015

ولي عهد السعودية، محمد بن سلمان، حصل على دعم وتأييد ادارة ترامب كجزء من سياسة صد نفوذ ايران في الشرق الاوسط. ولكنه الآن لم يعد قائم.

الضغط الامريكي والاوروبي على السعودية من اجل انهاء الحرب لم يؤتي حتى الآن ثماره. المفاوضات بين الحوثيين والسعودية تحطمت بعد فترة قصيرة على بدايتها. ولم يبق للولايات المتحدة أي رافعة حقيقية كي تفرض على الاقل وقف لاطلاق النار، وبالاحرى حل سياسي متفق عليه. من الواضح أنه بدون اتفاق بين السعودية وايران فان الحرب ستستمر في اشغال المنطقة ايضا في السنة القادمة.

الاسد يراكم الشرعية

الحل السياسي للحرب الاهلية في سوريا ايضا لا يتعلق بتأثير أو تدخل الولايات المتحدة. في هذه الساحة روسيا ستواصل كونها صاحبة الحل والعقد على الاقل على الصعيد العسكري. جهود موسكو لايجاد حل سياسي متفق عليه في اطار “عملية الاستانة”، على اسم جولات المحادثات التي جرت في عاصمة كازاخستان، لم تؤد بعد الى أي نتائج. ومشكوك فيه اذا كانت ستعطي نتائج في المستقبل القريب، ليس فقط بسبب العداء بين النظام والمتمردين.

الخلافات بين تركيا وروسيا، بالاساس حول مكانة الاكراد في سوريا، هي اللغم الرئيسي القابل للانفجار والذي يجب تفكيكه. في الحقيقة توجد مصالح مشتركة كثيرة بين الدولتين، اقتصادية واستراتيجية، لكن ايضا توجد خلافات غير قليلة بينهما. على سبيل المثال، أيدت تركيا وقطر الحكومة الليبية المعترف بها من قبل الامم المتحدة، في حين أن روسيا تؤيد الجنرال الانفصالي خليفة حفتر. 

انقرة ساعدت اذربيجان في المواجهة حول منطقة ناغورنو كراباخ، في حين أن موسكو دعمت ارمينيا، عدوتها. روسيا تطمح الى اشراك الاكراد في سوريا في المفاوضات السياسية حول مستقبل بلادهم؛ في حين أنه في نظر تركيا فان اشراك الاكراد هو مثل اجراء حوار مع منظمة ارهابية.

في هذه الساحة يتوقع أن تواصل الولايات المتحدة الجلوس والمشاهدة من المدرج. لقد قامت بدورها عندما استخدمت في 2020 قانون العقوبات ضد سوريا، “قانون القيصر”. ولكن واشنطن تغض النظر الآن، وحتى أنها تشجع مصر والاردن على نقل الغاز والكهرباء الى لبنان عبر سوريا، التي ستحصل على 8 في المئة على الاقل من قيمة موارد الطاقة التي ستمر في اراضيها. الاهم من ذلك هو أن دمشق التي تم طردها من الجامعة العربية يمكن أن تعود اليها في شهر آذار القادم، في القمة التي سيتم عقدها في الجزائر.

سلطنة عُمان والبحرين والسودان واتحاد الامارات استأنفت في السابق نشاط السفارات في دمشق. ايضا مصر والاردن يتوقع أن تؤيد قرار اعادة سوريا الى حضن العالم العربي. وبهذا تعطي بشار الاسد على الاقل الشرعية الاقليمية. سوريا هي المثال البارز على الطريقة التي تطور فيها الصراع الداخلي المدني ليصبح ساحة قتال عسكرية وسياسية دولية.

من العصيان المدني تحول النزاع الى حرب بين دول بواسطة مبعوثين، ومنها الى حرب تتدخل فيها بشكل مباشر دول، تركيا وايران، ودولة عظمى هي روسيا. ولكن مستوى الاهتمام الدولي بهذه الحرب آخذ في التقلص. واذا قررت الدول العربية أن تعيد للاسد مقعده في الجامعة العربية فان المواجهات في سوريا يتوقع أن تعود الى مكانة صراع داخلي – محلي، مثلما هي الحال في السودان وفي اليمن.

اعادة معايرة

خلال العقدين الاخيرين بنيت الاستراتيجية الامريكية والعربية حول ثلاث بؤر للمواجهة وهي الحرب في افغانستان والحرب في العراق، التي قادتها الولايات المتحدة اكثر مما هو مطلوب، والحوار النووي امام ايران. الدولتان تم احتلالهما بفارق سنتين، افغانستان في 2001 والعراق في 2003. الاولى كرد امريكي بدعم دولي على عمليات الحادي عشر في ايلول. والثانية كانت استغلال للحرب في افغانستان بذريعة ظهر أنها كاذبة تقول بأن العراق ينتج سلاح الابادة الجماعية، ورئيسه صدام حسين هو شريك لاسامة بن لادن.

ايضا بعد اعدام الرئيس صدام حسين، واغتيال ابن لادن بعد ثماني سنوات، منحت واشنطن تدخلها العسكري في هذه الدول غطاء من الاسباب، التي عززت مبرر استمرار وجود القوات الامريكية في الشرق الاوسط. في العراق وفي افغانستان لمع الطموح الى تسويق الديمقراطية في الدول الاسلامية كأحد المكونات الاساسية في سياسة جورج بوش، التي نقلها الى وريثه براك اوباما، الذي هو ايضا تحمل المسؤولية عن مهمة تصفية ابن لادن.

في العام 2014، بعد مرور ثلاث سنوات على تصفية ابن لادن، وفرت الحرب ضد داعش الذريعة الاكثر اهمية للتدخل العسكري الكثيف للولايات المتحدة وشركائها في العراق وفي سوريا. وحقيقة أنه في هذه السنوات الثلاثة قتل النظام السوري بضع مئات الآلاف من ابناء شعبه لم تقلق بشكل خاص الغرب. واشنطن كانت منشغلة بالمفاوضات حول الاتفاق النووي مع ايران، وخشيت من أن المس الشديد بالنظام السوري سيدفع طهران الى تجميد الاتصالات، وحتى التراجع عن نية التوقيع على الاتفاق.

لامبالاة وابتعاد الولايات المتحدة عن سوريا، وكأن الامر يتعلق بصراع داخلي، حسب تعبير دونالد ترامب “ما الذي يوجد هناك في سوريا؟ فقط رمال”، ابقت الباب مفتوح لدخول روسيا، التي تحولت الى صاحبة البيت فعليا مع شريك صغير هو تركيا، ومعا نجحتا في تقليص مكانة ايران. 

الجهود الامريكية والاوروبية للخروج من الشرق الاوسط النازف، التي بدأت في عهد ترامب وازدادت بعد دخول بايدن الى البيت الابيض، واعادة “المعايرة” للعلاقات بين واشنطن والسعودية، وفعليا مع دول الشرق الاوسط ومن بينها تركيا وايران، لم تجمد الوضع بانتظار استراتيجية امريكية جديدة. العملية التي بدأت في السنة الماضية، يبدو أنها سترافق المنطقة ايضا في السنة القادمة والتي بعدها، هي الانفصال عن قوة الجذب القوية لامريكا واوروبا دون تبني دولة رعاية عظمى بديلة. 

روسيا هي في الحقيقة الراعية لسوريا، لكن الدول العربية لا تعتبرها المغناطيس الذي يجب عليها أن تلتصق به. وهكذا ايضا الصين، التي تستثمر مئات مليارات الدولارات من اجل تطوير قدرتها على الوصول وزيادة نفوذها في المنطقة كجزء من استراتيجية “الحزام والطريق” التي تتبناها، تحذر حتى الآن من التدخل في الصراعات المحلية أو المشاركة في حروب المبعوثين التي ميزت ادارة الازمات في المنطقة.

خلال هذه العملية بدأت تتفكك المفاهيم التي فسرت المنطقة حسب انتماء الكتل، المؤيدة للغرب، “امريكي”، والمناهضة للغرب “روسي”. يبدو أنه من الآن ستخلي هذه المفاهيم مكانها لتحالفات محلية صغيرة. تحالفات مقلصة تستند الى مصالح محلية، التي ربما ستكون ناجعة اكثر في حل جزء من الصراعات العنيفة.