سنة جديدة ومهمات جديدة

مهند عبد الحميد.jpg
حجم الخط

بقلم: مهند عبد الحميد

«إنك لا تنزل النهر مرتين» قالها الفيلسوف اليوناني هيروقليطس وعنى بها أن مياهاً جديدة تحل مكان المياه السابقة في النهر، في إشارة للتغيير الذي يحدث باستمرار. انقضت سنة 2021 التي كانت تغص بأحداث جسيمة وخسائر فادحة لحقت بالشعوب وبالشعب الفلسطيني على نحو خاص، ودخلنا سنة 2022 التي طرحت سؤال التغيير الذي سنشهده على مدى 365 يوماً، إلا إذا كانت سنة كبيسة 366 يوماً، وفيما إذا كان التغيير للأسوأ او للأحسن، ومن يصنع التغيير؟
العام 2021 شهد تغييراً للأسوأ يمكن تلخيصه بصرف نظر النظام الدولي عن قضية الاحتلال الإسرائيلي وسيطرته على الشعب الفلسطيني، وتعايشه مع الاحتلال كأمر واقع، وتحويل حركة استعمارية «إسرائيل» الى طرف يقرر مصير شعب، ويحيله إلى تحسين شروط حياة العبودية اقتصادياً، وهذا فقط لتفادي حدوث انفجارات تؤثر سلباً على استقرار المصالح الإسرائيلية. وقد تعزز التغيير للأسوأ بالاتفاقات الإبراهيمية مع  اربع دول عربية وواقع الحال مع النظام العربي وجامعته العتيدة، حيث جرى عملياً شطب بنود «مبادرة السلام العربية التي تدعو إلى إنهاء الاحتلال وحل قضية اللاجئين وإقامة دولة فلسطينية، وأبقت على بند واحد هو التطبيع والتعاون مع إسرائيل ونفذته بسرعة قياسية، محولةً التطبيع الى تتبيع مهين. التغيير الذي لم يحسم في العام 2021 هو مكانة إيران الإقليمية. هل تنجح مساعي التسوية بالمفاوضات أم عبر الحرب؟ المؤشرات تقول إن مساعي التسوية ستؤتي أكلها بإعادة تعريف مكانة إيران الإقليمية، وسينعكس ذلك على الإقليم وعلى الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وعلى دور ووظائف محور المقاومة والممانعة وبخاصة فرعه الفلسطيني. وفي حالة عدم التوصل الى الاتفاق فلن يكون البديل حرباً، بل إدارة الأزمة على قواعد لعبة الاتفاق السابق، مع هامش للاشتباك وتوجيه ضربات محدودة، ومع الإبقاء على دور فلسطيني مقاوم.
ما أود قوله هنا أن التغيير للأسوأ في العام 2021 حدث من فوق عبر النظام الدولي، وتحت مظلة ما يسمى «بالسلام الأميركي» واستراتيجية إعادة بناء السيطرة، وقد اندرج المشروع السياسي الفلسطيني الرسمي  في إطار «السلام» الأميركي الذي انكفأ لصالح «السلام» الإسرائيلي. واندرج النظام الفلسطيني المعارض في إطار مكانة ايران الإقليمية، وكلاهما تحولا أو أصبحا خارج إطار التحرر والخلاص من الاحتلال، ما يطرح أهمية الخروج من مسار أوسلو من جهة وتجاوز دور ورقة الضغط وتحسين شروط ايران الإقليمية الى فعل وطني مستقل. والتغيير في الميلين لا يحدث تلقائياً من فوق، وإنما بفعل شعبي تراكمي من تحت. لحسن الطالع الفلسطيني ان ارهاصات وإضاءات فعل التغيير انبثقت في العام 2021 في الشيخ جراح وباب العامود وبيتا وبرقة وفي عشرات المواقع داخل فلسطين التاريخية، وفي عشرات التعاونيات الزراعية المنتجة وأسواقها، وفي مجموعات ضغط من اجل تعليم تحرري غير تقليدي وغير محافظ، وائتلافات نسوية من أجل تغيير قوانين التمييز ضد النساء، وفي مجموعات وأفراد من المثقفين والأكاديميين والفنانين، وغير ذلك. كانت معظم مبادرات الاحتجاج مستقلة، بمشاركة قواعد التنظيمات السياسية وهذا شيء جيد، غير ان الشيء غير الجيد هو محاولة السيطرة والتوظيف في السياقين السابقين. لتفادي ذلك يصبح تطوير الفعل المقاوم الاحتجاجي على الأرض، وتطوير الموارد من داخل المجتمع، والبناء المؤسسي غير البيروقراطي، وتوظيف كل ذلك في مشروع وطني ديمقراطي مستقل، إنه التحدي الأكبر في العام 2022، تحدي إعادة بناء بنية تملك ديناميات العمل والتغيير الحقيقي، بعد أن أصبحت البنية التقليدية غير قادرة على التوحيد، ومكرسة للانقسام.
وتحتل مهمة مراجعة السياسات وتطوير الفكر السياسي الاجتماعي من قبل الأكاديميين/ات والمثقفين/ات والمفكرين/ات أهمية كبيرة. فالفكر الذي كف عن المراجعة والتحديث والتجديد،   ولم يُجب عن الأسئلة التي يطرحها الناس وبخاصة الأجيال الجديدة، أحدث أزمة كبيرة. كان من نتائجها انكفاء الأحزاب والتنظيمات ومؤسسات المجتمع المدني لصالح العائلات والعشائر والعصبيات القبلية والجهوية ورجال الدين المتزمتين. هذه القوى بدأت تملأ الفراغ الذي تركته الأحزاب والتنظيمات  وتعيد المجتمع الى علاقات ما قبل رأسمالية وثقافة محافظة متعصبة منغلقة. ليس هذا وحسب، بل إن الأحزاب والتنظيمات خضعت الى حد كبير لهذه القوى وأخذت تنصاع او تتماهى مع مواقفها الرجعية، غير آبهة بأفكارها العلمانية العقلانية الديمقراطية والتنويرية التي طرحتها إبان صعودها السياسي وسيطرتها على القرار السياسي. إن إسقاط التحرر الاجتماعي وبرنامجه وركائزه من أجندات القوى التي تبنت اليسار والعلمانية، فتح شهية القوى التقليدية للسيطرة على المجتمع وفرض مواقفها الرجعية عليه دون اعتراض او احتجاج حتى من اليسار. ولا يمكن رؤية التدهور السياسي والوطني بمعزل عن الفكر المحافظ الرجعي وبنيته العميقة داخل المجتمع. نعم لا يمكن رؤية الانقسام السياسي والديمغرافي بمعزل عن هذا الفكر المحافظ. فالوحدة الوطنية والمجتمعية الحقيقية ارتبطت بالفكر الديمقراطي التحرري، الذي ما زال يشكل ضمانة أساسية لإعادة بناء وحدة وطنية حقيقية راهناً. يستطيع المستبدون فرض سيطرتهم لكنهم لا يستطيعون تحقيق الوحدة الوطنية النابعة من الشراكة والتقاء المصالح. وأفضل دليل على ذلك مصائر العراق وليبيا وسورية واليمن والبحرين – دول الملح لها تفسير خاص-. تلك البلدان التي لا يفسر انقسامها فقط بوجود مؤامرة وأطماع استعمارية، وإنما بوجود استبداد وفكره الرجعي المغطى بشعارات مضللة.
مهمة إعادة النظر في تشرذم العمال الفلسطينيين وتوزعهم على أرباب عمل عديدين، وبخاصة الجزء الذي يعمل في دولة الاحتلال ومستوطناتها وينفصل عن التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية الفلسطينية، ويؤمن لدولة الاحتلال عمالة بمواصفات فريدة من نوعها. من المنطقي القول إن إعادة البناء الداخلي والمأسسة الجديدة لا يمكن لها ان تستبعد الجزء الحيوي من المجتمع أي العمال، ولا يمكن أن تتجاهل انتماءاتهم السياسية والنقابية المزرية، ولا مصالحهم الآنية والاستراتيجية. لماذا يوضع سؤال العمال ودورهم الوطني والاجتماعي في الأدراج، ويبقى مسكوتاً عنه، ولا يرد ذكره إلا في الخطاب التضليلي الذي يقدم في الأول من أيار كل عام؟ ولماذا أُسدلت الستارة مرة واحدة والى غير رجعة عن قانون ومؤسسة الضمان الاجتماعي بعد المعركة التي قادها تحالف القطاع الخاص والعشائر وأفضت إلى إسقاط المشروع.
بقي القول، إن تحررنا الوطني الاجتماعي، ينبثق من عشرات المهام والمواقع، وان التغيير هو حصيلة التقدم في كل المواقع، ذلك التقدم الذي لن يكون دفعة واحدة.