إذا كان «أصحاب ولا أعز» قد فرض نفسه على السجال العام، فهو يتموضع بيسر وسهولة، أيضاً، في سياق الكلام عن «الروايات»، التي تناولنا جانباً منها في ثلاث معالجات سبقت. ولا ضرورة لتقديم معلومات عن حبكة الفيلم، أو تفاصيل الضجة التي أثارها، فهذه وتلك معروفة ومُتداولة لدى المعنيين.
فما يعنينا يتمثل في طرح أسئلة من نوع: لماذا الضجة، وما دلالتها الاجتماعية، والثقافية، وصلتها بالسياسة؟ على أمل أن تُغني الإجابات لا موضوع «الروايات» وحسب، ولكن لماذا يكرر الموضوع نفسه بصيغ مختلفة، وعلاقة هذا كله بالسياسة، أيضاً، وهي بيت القصيد.
لماذا الضجة؟ بداية: نقول إن ما جاء في الرد على الفيلم، ونقده ونقضه والتحذير منه، سواء صدر عن مؤسسات دينية واجتماعية أو أفراد، صحيح، بمعنى أنه يعبّر عمّا استقر في وعي هؤلاء كقيم دينية واجتماعية، ينبغي تمثيلها وحمايتها. وقد اندرجت كلها (كائناً ما كانت) في عبارة «قيم الأسرة المصرية والعربية»، التي تكررت بشكل لافت.
ولا ضرورة، أو حتى أهمية، للتساؤل بشأن صدقية الاعتراض. المهم أنه موجود، وأن في التساؤل عن مصدره ما ينم عن حقيقة سوسيولوجية أكثر أهمية من نوايا المعترضين. تتمثل هذه الحقيقة في وجود مجتمعات متوازية، تكاد تكون بلا صلة مع بعضها البعض، في عواصم الحواضر العربية.
فكرة المجتمعات المتوازية ليست جديدة. ورد وتكرر الكلام عنها في معرض تحليل ما نجم عن الزيادة الديمغرافية، والتحديث السريع، والهجرة إلى المدن، وترييفها، وظهور أحزمة الفقر، في حواضر كثيرة، من تغيّرات على البنية الطبقية، والقيم، والسياسة، والمجتمع.
المجتمعات المتوازية تعني وجود أكثر من مجتمع واحد داخل مدينة هائلة الحجم كالقاهرة، مثلاً، وفيها ما يلبي حاجات الفرد من المهد إلى اللحد، دون وجود صلات حقيقية، أو حتى مجرّد التماس، مع مجتمع آخر، على الجانب الآخر للحي، أو يبعد دقائق بالسيّارة، يلتقي أفراده، وفق تراتبية مضبوطة وآمنة، في الدورة الاقتصادية العامة، والفضاء الاجتماعي العام.
يمكن التلصص من خلال أعمال أدبية «كعمارة يعقوبيان» مثلاً، على عالم المجتمعات المتوازية. والمهم، فعلاً، أنها لا تعرف بعضها. لديها تصوّرات عامة وغائمة عمّن تجاورهم، إلا أنها مرشحة للصدمة، أو مضطرة للتعبير عنها، إذا تم الاحتكاك بطريقة غير آمنة، أي خارج التراتبية الاجتماعية.
لذا، لن تجد شخصاً واحداً من ساكني المركبّات السكنية الجديدة، (المسيّجة والمغلقة والمحروسة على الطريقة الأميركية) خارج القاهرة، لا يشعر بالدهشة، إذا أطل بشكل مباشر على حياة قاطني المقابر، هناك. وبالقدر نفسه لن تجد شخصاً واحداً من ساكني المقابر (خمسة ملايين نسمة تقريباً) لا يشعر بالدهشة، معطوفة بالشكوى، إذا أطل بشكل مباشر على حياة سكّان الأحياء المُسيّجة. والقاسم المشترك بين هؤلاء وأولئك ارتياب متبادل، ومعرفة مشوّهة، وغياب لدلالات حاسمة من نوع أن غنى البعض مشروط بإفقار البعض الآخر.
على أي حال، يمكن العثور، بدرجات متفاوتة، في أوساط الشرائح العليا والمتوسطة للطبقة المدينية الوسطى (تضم مؤهلين في مهن حرّة كالطب والأكاديميا والمحاماة، والثقافة والإعلام، والفنون، والمنظمات غير الحكومية، وشرائح من بيروقراطية الدولة) على نمط حياة وقيم تقترب بدرجات متفاوتة، أيضاً، من نمط الحياة الذي تنم عنه دعوة أصدقاء لتناول العشاء في «أصدقاء ولا أعز»، وحياتهم المهنية، كما يتضح من الحوار، لا تختلف عمّا ذكرنا).
ولننتبه جيداً، الآن: لا ينتمي خطاب المعترضين على ما في الفيلم من «تهديد للمجتمع والقيم» إلى الطبقة الوسطى المدينية (هذا لا ينفي وجود مغفلين مفيدين ومضاربين، ونصّابين)، بل ينتمي إلى، ويصدر عن، سكّان المركّبات السكنية المُسيّجة (وما يدخل في حكمها) لا في الحاضرة المصرية وحسب، ولكن في بقية الحواضر الشامية، والعراقية، والمغاربية، أيضاً. وفي جينالوجيا هؤلاء، منذ أواسط السبعينيات، صلات عضوية، بالمعنى الأيديولوجي والسياسي، تداعيات ودلالات وهابية وإخوانية وخمينية، وثيقة الصلة بدولارات الخليج النفطية، وإيران.
ولننتبه جيداً، أيضاً: الطبقة الوسطى المدينية تقلّصت بشكل ملحوظ في العقود الأخيرة. نحلل في معالجات لاحقة لماذا وكيف تقلّصت. فالمهم، الآن، الحفاظ في الذهن على فرضية أن الأفراد في مجتمعات متوازية لا يعرفون الكثير عن غيرهم. ومن تداعيات جانبية لأمر كهذا، خاصة في زمن الثورة المضادة، وما يسمها من نفاد الصبر، وقلّة الحياء، الصدمة إزاء عمل سينمائي يهدد بتمكين المسكوت عنه من الكلام، ومنحه (لغةً، صوتاً، وصورة) ما يؤكد وجوده الحي والحيوي في الحياة اليومية، والعلاقات الاجتماعية، والقيم الأخلاقية، لشرائح اجتماعية مختلفة.
لم يفكر أصحاب الفيلم في كل ما أتُهموا به، بالضرورة، وربما استهوتهم إشكالية العلاقات الزوجية، والجنسية، وهي كنز في معالجات كوميدية وتراجيدية لا تنضب، وهذا ما نجم عنه نقد لقيم النفاق الاجتماعية السائدة، وازدواجية المعايير. وفي سياق هذا كله تصرّف الجسد «الحمدلي» الموشوم (بلغة عبد الكبير الخطيبي) بعفوية ومرونة. فهكذا يعيش الناس.
وهذا، بالتحديد، مصدر الصدمة. ففي العفوية والمرونة، بالمعنى الفيزيائي واللغوي والمجازي ما يبدد طمـأنينة الحقل الدلالي لمشروع الأسلمة، أي ديمومة التراتبية، وعلاقات التبادل الآمنة، وفي القلب منها تجاهل، أو غض النظر، عن حقيقة أن غنى البعض مشروط بإفقار البعض الآخر. (هذا ما تمرّد عليه الربيع العربي المبارك).
لذا، كلام المعترضين صحيح طالما في صحته ما يضمن ديمومة التراتبية، وعلاقات التبادل الآمنة، أما إذا تآكلت مفرداتهم، أو ترددوا في التعبير عنها، بما يليق بها من عنف وحماسة، فقل انتهى الاستثناء العربي، وتحررت الحواضر من قيد الاستعصاء الديمقراطي، وتمتعت بحقوق الإنسان، لا كما يؤّولونها، بل كما نصّت عليها المواثيق الدولية. فاصل ونواصل.